هذا الصنف – قصة قصيرة – عمر فضل الله


عاد إلى الشقة متأخراً وهو يخبئها في الجيب الداخلي الذي طلب من الخياط أن يفصله له في موضع خاص فالناس لا ينظرون إلى هذه المواضع عادة. صعد الدرج إلى الطابق الخامس في ذلك المبنى القديم ذي النوافذ المنخفضة. دخل شقته وأوصد الباب بالمفتاح، ثم عاد ليتأكد من إغلاق الباب مرة أخرى. أكمل دورتين للمفتاح وتركه في القفل من الداخل. 

– انتبه الصنف ده خطييييير.. 

مازال الحوار الذي دار بينه وبين صاحبه يتردد في أذنه. لكنه يعرف نفسه جيداً. جرب كل الأصناف لكنها لا تؤثر عليه فهو قوي كالثور. 

– المرة دي ما زي المرات الفاتت يا فردة.. عموماً أنا حذرتك وانت المسئول.

– ياخ ما مشكلة انت عملت العليك..

– يازول أنا باتكلم جد..

– هات هات. جيب ياخ.. ما تضيع لينا زمنا ساكت بالكلام الكتير. خطير علىّ أنا؟ قال خطير قال..

خلع قميصه وبنطاله وبقي بتلك الملابس الداخلية المهترئة. تذكرها فأخرجها من الجيب الداخلي. بحث عن الولاعة وأخيراً وجدها داخل حذائه.. جلس على الأرض. وأشعلها. أخذ نفساً عميقاً. ثم آخر. ثم أطفأها راضياً.. سعل سعلتين قبل أن ينفث الدخان. وحين نفث بقوة هذه المرة أحس به يتسلل من عينيه إلى الخارج. الدخان خرج من جميع فتحات وجهه. خيل إليه أنه خرج من أذنيه أيضاً.. لابد أن هذا صنف جديد لكنه قوي. أعجبته الفكرة. ابتسم.. وامتدت يده إليها لتشعلها مرة أخرى لكنه جبن.. بقي متسمراً على الأرض وبقيت هي في يده. رأى وجه المرحومة أمه. كانت هناك. مستندة إلى جدار الغرفة. رآها تضحك ملء شدقيها. فزع لكنه تمالك نفسه ولوح لها بيده ليسلم عليها لكنها اختفت دون أن ترد السلام. انتبه إلى أنه ما زال يلوح بيده بعد أن اختفت صورة أمه.. نهض متثاقلاً وذهب إلى الحمام.. نظر في المرآة فرأى وجهه بالمقلوب. كان شعر رأسه للأسفل وذقنه في الأعلى بدلاً من شعر رأسه.. وعيناه أسفل خديه… أجفل وخرج من الحمام.. عاد مرة أخرى ونظر في المرآة ولكن بتردد وحذر هذه المرة.. رأى وجه امرأة يطالعه من المرآة. لم تكن هي أمه .. ابتسم فابتسمت. فتح فمه ففتحت فمها خرج وعاد مرة أخرى ونظر مكان المرآة . فلم يرها هذه المرة. ولم ير المرآة.. فرك عينيه فلم ير شيئاً. مجرد ضباب كثيف.. في عينيه يحجب الرؤية.

تحسس طريقه إلى سريره. لم يعرف إلى أين يتجه. رأى بصيصاً من النور فاتجه نحوه.. ارتطم بشيء يشبه حافة السرير لكنه عال جداً.. لماذا ارتفع السرير هكذا فجأة ياترى. رفع رجله ليصعد. فوصلت بعد جهد كبير. أمسك بتلك الحافة الخشبية. ورفع رجله الأخرى ليضعها على السرير. لكنها انزلقت في الهواء. لماذا أصبحت المسافة إلى المرتبة بعيدة هكذا فجأة.. رأى أنواراً تصعد إلى الأعلى.. والنوافذ تطير مرتفعة إلى السماء بسرعة كبيرة. ونظر فرأى النجوم والقمر. كان الليل هادئاً، والناس نيام.. ولم تكن هناك أي أصوات إلا صوت ارتطام شيء بالأرض شيء سقط من نافذة الطابق الخامس لذلك المبنى القديم على أرض الشارع .. ثم سكون.

صحيفة ألوان – أنفاس الكلام – الثلاثاء 21 ربيع الأول 1438 الموافق 20 ديسمبر 2016

 

من زوايا الذاكرة – أدب الشوارع بقلم د. عمر فضل الله


حدث ذلك وأنا طالب في المرحلة المتوسطة. فحين كنا صغاراً ما كان أهلنا في القديم يتحرجون في إرسالنا للسوق لشراء اللحم والخضار أو للبقالة لشراء الملح أو الزيت والسكر أو كلما احتاجت أمي لشيء ما يلزمها في عملها كل يوم عند صنع الطعام أو عمل القهوة. ورغم أنني كنت أذهب متذمراً من تلك المراسيل في كل مرة لكونها تحرمني اللعب إلا إن كانت وراءها منفعة من أكل ونحوه أو بعض قروش مما يبقى من قيمة المرسال إلا أن هناك مرسالاً خاصاً كنت أنشط له جداً بل وأترقبه كل أسبوع وأفرح حين يأتي رغم أنني لم أكن أنتظر من ورائه عائداً مادياً. هذا المرسال كان هو مرسال القراءة كل يوم جمعة حين يدعوني أخي الأكبر علي أحمد فضل الله وفي يده كتاب أو رواية يتبادلها مع ثلاثي القراءة المشهور في العيلفون في ذلك الزمان: الأديب القاص الراحل أبوبكر خالد مضوي والأستاذ هشام إدريس الخليفة والأستاذ النور أو مصطفى أحمد المكاوي. كنت أنشط لهذا الأمر لأنني كنت أعلم أن فرصتي الوحيدة للمس وحمل تلك الكتب التي لم أكن أحلم باقتنائها أبداً هي حين أحملها من بيتنا إلى بيت الأديب القاص الأستاذ أبي بكر خالد في الحي الأمامي وقد كان رحمه الله يقيم في نفس بيت صهره القاضي عبد الرحيم صباحي. كان أخي يعطيني الكتاب لأذهب به إلى بيت أبي بكر خالد وأعود بكتاب آخر وذلك على طريقة التبادل بينهما وأحياناً أخرج بكتابين لأمر في طريقي على هشام الخليفة لأعطيه أحد الكتابين وآخذ منه آخر إلى بيت أبي بكر وبذلك تتاح لي الفرصة مضاعفة لاختيار أحد الكتابين وتصفحه في الطريق ولو أعجبني فإنني أجلس في ظل أحد البيوت لأقرأ ذلك الكتاب أو تلك الرواية. بهذه الطريقة كنت أقرأ الكثير من قصص وروايات إحسان عبد القدوس المنشورة كتباً أو المضمنة في مجلة روز اليوسف. ولأن القصة تكون طويلة أحياناً فإنني كنت أتصفح الكتاب أو أمر مروراً سريعاً على أحداث القصة فأقرأ سطوراً هنا وسطوراً هناك. ارتبطت روايات وأعمال الأديب إحسان عبد القدوس وكذلك مؤلفات الأديب نجيب محفوظ عندي بمعالم معينة في القرية فلا زلت أذكر أين قرأت رادوبيس أو زقاق المدق (قرأتها بين دكان ود البر وزقاق إدريس الخليفة) واين قرأت السراب أو تصفحت بين القصرين أو قصر الشوق أو السكرية ولا زالت اللص والكلاب تذكرني بكلب العم عبد الكريم الأمين في القرية حين أمر من بيتنا إلى بيت العم عبد الرحيم صباحي على طريق عبد الكريم الأمين. أستطيع أن أقول إنني قرأت السمان والخريف كاملة في الطريق لكنني تصفحت ثرثرة فوق النيل وميرامار وأولاد حارتنا ثم لم أتمكن من قراءتها بعد ذلك كاملة إلا بعد أن أصبحت طالباً في الثانوية العامة. ولهذا فلما أعدت قراءة هذه القصص والروايات ذقت لها طعماً خاصاً لأنها ارتبطت عندي بذاكرة التاريخ القديم في القرية وبالأماكن والطرقات. قرأت تلك الروايات والقصص متلصصاً وخائفاً أن يضبطني أخي الأكبر أو يعثر علَّى أحدهم في الطريق جالساً منهمكاً في القراءة. وأظن أن الأستاذ أبوبكر خالد قد لاحظ أنني أقرأ تلك الكتب أو أتصفحها لأنه كان دقيق الملاحظة وكان واضحاً أن تلك الكتب تصل إليه متربة متسخة وبصمات أصابعي مطبوعة في كل صفحة من صفحاتها لكنه كان ذا أدب جم فتجاهل ذلك ولم يسألني يوماً عن السبب. لست أدري هل يصح أن أطلق عليه أدب الشوارع أم لا لكنني فتحت عيني على قراءة الأدب في الشوارع.

عمر فضل الله

حوار الأديان في رواية (ترجمان الملك) للدكتور عمر  فضل الله! بقلم محمد العكام


          لا شك أن الأنماط الدينية التاريخية التي تتمتع بها رواية (ترجمان الملك) تجعل منها منظومة أدبية لوحدها، حيث أنه تتعدد بها الملامح الأدبية المختلفة، وأن من يقرؤها لابد له أن يعيد قراءتها مراراً وتكراراً، ليستنبط منها دهشة الحكي والسرد التي ترتاب مخيلتك وأنت تقرأ كل هذا الزخم الهائل من المعلومات عن المنسي من تأريخ السودان، ولكن الأدهى والأمر أن تحاول استقراء السهل الممتنع لهذه الأدبيات من مشروع د. عمر فضل الله الروائي وأنت قارئ بسيط.

          فمعنى الحوار في اللغة: مراجعة الكلام وتداوله، والمحاورة: المجادلة، والتحاور: التجاوب، وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام، ومنه قولهم: لم يُحِر جوابا أي: لم يرد ولم يرجع الجواب؛ فمرجع الحوار للتخاطب والكلام المتبادل بين اثنين  فأكثر. والمعنى اللغوي العام للحوار هو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين، فإذا أضيف إلى الأديان أصبح معناه ما يدور من الكلام والحديث والجدال والمناقشة بين أتباع الأديان، وهذا يدل على أن معناه عام متعدد الأشكال والصور والأنواع بحسب نوعية الكلام والمناقشة. أما مدلوله الاصطلاحي فهو مجمل غامض، لأنه يستعمل بأكثر من معنى، فهو يحتاج إلى بيان أنواعه والفروق بينها. فعبارة «الحوار بين الأديان» تشمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً يحتاج كل منهما إلى بيان وتوضيح.

          إن مسألة التأريخ تشكل دائماً النموذج الذي يملك المجتمع الدراسات الإنسانية وحقائق التأريخ في قوالب أدبية متعددة الإنتاج، لكن هنا في رواية (ترجمان الملك) شيئاً ما يتمرد علي العقل ويسرح بك الخيال ليمتزج مع الحقائق التي نقبها الراوي في الفترة ما بين 340 ميلادية إلي 600 ميلادية لتأريخ مملكة (علوة) المسيحية في عهد الملك (النجاشي) ملك الحبشة والعلاقات الإنسانية من مرحلة غامضة لتأريخ تم سرده بحرفية عالية من خلال التشويق والتسلسل الحدثي، والإبداع في الحوارات مما يجعلك أحد أبطال الرواية وأنت متاح لك الاختيار كيفما تشاء، وقد اتسمت الرواية بالتشخيص الإيجابي في النضج الفكري لصناعة الرواية ومنهجها الجيد الذي ينم عن عبقرية الراوي. وبحكم أنني لست ناقداً وكوني قارئاً بسيطاً استلهمت الرواية شغفه في أن يسبر غورها، أجدني أتقمص شخصياتها وأعيش دورها، وهي تضفي إلي حبي للدراسات الأدبية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الموفور بين طياتها، شيئاً من المتعة، ثم جذبتني لأعيش نوستالجيا عهد ذلك (النجاشي) الملك الذي لا يظلم عنده أحد كما قال سيد المرسلين سيدنا (محمد) عليه أفضل الصلاة والسلام، وهجرات المسلمين القادمين في عهده من مكة للاحتماء بمظلة عدالته هروباً من قبضة قريش وعذابها.

          لقد استطاع الراوي أن يجمع ما بين الكنيسة (المسيحية) والإسلام في قالب أدبي لحوار الأديان لتلك الحقبة من تأريخ السودان المنسي لــ(مملكة علوة المسيحية) وسكانها الذين كانوا يطلقون عليهم اسم العنج، وهو مؤرخ لا يشق له غبار في ذلك. ويحكي لنا بلسان (سيسي) ابن دلمار بن أرياط (ترجمان الملك النجاشي)، مستصحباً أدوات الشروح والتمحيص في حوار للأديان (Interpath) من خلال نصه المشبع بالخيال والحقيقة، لأن هناك شروط عديدة بين أصحاب الديانات المختلفة، كالدعوة إلي رب السموات والأرض، بالحكمة والموعظة الحسنة والابتعاد عن العنف وكل ما يؤدي له، والتعصب لفريق معين علي حساب فريق آخر، واستخدام العقل وجوهره في جميع الأمور، واعتماد أساليب البرهان الذي يحق الحق ويزهق الباطل. والإقناع أيضاً والإيمان الكامل بالدين ومبادئه الأساسية والأهداف التي جاء بها والتوسع باستخدام العلم في الحياة الدنيوية والدينية، والحث علي الاستقلالية في التفكير. كان دلمار بن أرياط (ترجمان الملك) هو النموذج للكنيسة عندما يأتي العرب إلي الحبشة بغرض التجارة أو غيرها، فأمية إبن أبي الصلت الذي ترك بناته في اليمن وجاء إلي (سوبا) ليحاور الأسقف حول المذهب الذي تتبعه الكنيسة في مملكة (علوة) _والمعروف أن أمية بن أبي الصلت موقفه من الرسول (ص) حينها_ كان مُحباً للسفر والترحال، فاتصل بالفُرس في اليمن وسمع منهم قصصهم وأخبارهم، ورحل إلى الشام في رحلات تجارية وقصد الكهان والقساوسة والأحبار وسمع وعظهم وأحاديثهم، وكان كثير الاطلاع على كتب الأديان والكتب القديمة فاطلع على التوراة والإنجيل كما أنه كان كثير الاختلاف والتردد على الكنائس ورجال الدين، وكان مُهتماً بيوم البعث والحساب والجنة والنار فكان يكثر من ذكرها بأشعاره وأسجاعه، وكان أحد رؤوس الحنفاء في الجزيرة العربية المُنادين بتوحيد الخالق ونبذ الأوثان وما دون الله. والحنيفية قبل الإسلام كانت مدرسة ناشئة تجديدية تأثرت باليهودية والنصرانية وأدركت الوضع السيئ لحال العرب الديني الجاهلي، فالتجأت إلى التوحيد والأمر بالارتقاء العقلي والأخلاقي والثقافة والتعلم، غير أن الأحناف لم تكن لهم عقيدة معينة فكانوا يختلفون بآرائهم ويجتمعون على التوحيد ورقي التفكير، وأمية بن أبي الصلت يُعد أشهر هؤلاء الأحناف مع قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث، وغيرهم. وهنا في رواية (ترجمان الملك) نجد كل ذلك وهو يجادل ويحاور الأسقف والكهنة حول تأريخ الكنيسة ليرد عليه رئيس الكهنة في (صفحة 26 ) من الرواية قائلاً :

(( أنت سمعت القصة المختلفة من أهل غزة يا ” إبن أبي الصلت ” وهم يزعمون البشارة وصلت إلينا عن طريق “متي” العشار حين أمره “بطرس” بالقدوم إلي بلادنا بعد بني كنيسة روما، في العام 62 لميلاد المسيح له المجد، لتنفيذ وصية المسيح بتلمذة جميع الأمم، ولكنني أؤكد لك أن هذه قصة لا أساس لها وأن “متي” تنيح قبل أن يصل إلي بلادنا، وأن من جاء إلينا بهذا النور هو جدي (فرمنتيوس)، بعد أن تمت رسامته من قبل (أثناسيوس) بطريرك الإسكندرية عام 326، وهو أول مطران لبلادنا. وأنت تعلم أنه بعد مجمع (نيقية) ثم مجمع (خلقيدونية)، عام 451 انفصلنا عن روما وغيرها وأنني كمطران لكنيسة علوة لا أتبع إلا للإسكندرية. ))

ثم قال رئيس الكهنة لأمية (صفحة 28):

أنا مندهش من إجتهادك من أجل معرفة عقائد الكنيسة ( يا إبن أبي الصلت ) مع أنك أخطأت فهمها. وعلي كل حال أنت حر في أن تعتقد ما تشاء، ولكن مذهبنا هو الحق الذي أقره مجمع “أفسس” منذ عام 431 ميلادية. … إلخ !

وكل هذا السرد، لم يكن مقنعاً لــ(لأمية إبن أبي الصلت) فجعله ضاحكاً وهو يقول لرئيس الكهنة أنني أتفق معك ولكن كان رأيه مغايراً لأن دلمار كان يترجم (الإنجيل) لأمية ولذلك كان يعتبر أن ترجمة دلمار للإنجيل هي الصحيحة حيث أن دلمار _ حسب ما قاله سيسي _ قال لكبير القساوسة (صفحة 81) من الرواية :

_ ((أنتم تقرأون في الكنيسة من نسخة وصلت إليكم من الإسكندرية وفيها نصوص مترجمة تخالف ما تعلمناه من الكهنة الذين توارثوا هذا العلم منذ عهد (فرمنتيوس السرياني) وتناسيتم الترجمة الحبشية الأصلية التي عمرها أكثر من مائتين وخمسين سنة والتي كتبها فرمنتيوس السرياني باللغة الآرامية لغة المسيح، واعتمدها عيزانا ملك أكسوم منذ العام 340 حين تحولت جميع بلادنا إلي المسيحية. وهي محفوظة عندي. هذه هي الترجمة التي يجب أن تسود في بلادنا وليست الترجمة القادمة من الإسكندرية يا نيافة الكاهن.))

ولذلك كان أمية يستنبط ويستوعب الدروس والمحاضرات من الكهنة والقساوسة عن الكنيسة  أكثر مما يقوله في المقارنة، وبالطبع هي ما كانت ترنو له حينها الكنيسة في ذاك الوقت لتنفيذ الوصية بأن الكنيسة تعلم الإنسان المحبة والتسامح والرفق والاهتمام بالإنسان والحياة واعتبار قدسية الحياة والحفاظ عليها من أجل سعادة الإنسان وأمنه ورفاهيته. والرواية مليئة بالأحداث التي تنقلنا بين طيات صفحاتها عن حوار الأديان. و حوار الأديان هو مصطلح  يُشير إلى التفاعل، والبناء الإيجابي  بين الناس من تقاليد دينية مختلفة، ومعتقدات روحيّة، وإنسانيّة سواء كان ذلك على مستوى الفرديّة، والمؤسسيّة، وهو يختلف عن التوفيق بين المعتقدات أو الدين البديل؛ حيث يتم في هذا الحوار تعزيز التفاهم بين الأديان أو المعتقدات المختلفة لزيادة قبول الآخر، بدلاً من تجميع معتقدات جديدة.

 فعندما زار (الزبير) مملكة (علوة) أخذه (سيسي) بن دلمار ليتجولوا في طرقات سوبا، فــ(الزبير) من أقارب الرسول (ص) وهو إبن خاله، ويصفه (سيسي) ( صفحة 87) من الرواية قائلاً :

(( كان (الزبير) مختلفاً عن كل من عرفتهم من الأصدقاء. لم تبهره روعة سوبا ومبانيها وحضارتها، ولا حتي كنيسة (مارية). ))

فكان الزبير صامتاً بليغاً في صمته، في تجواله مع (سيسي) إلي أن دخلا النيل، وقد يدلنا هنا الحوار التالي لما يشكل علاقة الإسلام بالتسامح بتشريح إيجابي للكنيسة، وأن الإسلام كان دائماً يعلم التسامح ويفرضه حيث وجد. هذا في حين أن بقية الأديان الأخرى، وبخاصة الأقرب إليهم كاليهودية والمسيحية، كانت متعصبة وغير متسامحة، عكس ما كان يتحدثون به، قال (سيسي) ظل الزبير صامتاً ولم يجبني، وخرج من الماء علي الشاطئ ومد يده وغرف من الماء، وذاقه ثم شرب، ثم اغتسل بنفس الطريقة التي رأيتهم يفعلونها في بيت (تانيشا).

_ أنتم تغتسلون كثيراً يا زبير! رأيتك تفعل هذا في البيت.

_ نتوضأ لكل صلاة! هكذا علمنا النبي.

هنا يريد الزبير أن يلقن (سيسي) بسلاسة أن نبيه، كيف كان يعلمه الدين الاسلامي، كما كان يشرح (سيسي) لأمية إبن أبي الصلت ماهية الكنيسة وما تحويه من تقاليد دينية.  قال الزبير بذات الحوار.

_ ولكننا نتوضأ للصلاة، بل نصلي هكذا مباشرة. هل نبيكم نصراني أيضاً يا زبير؟

_ لا لا .. نبينا مسلم ونحن مسلمون.

_ من هو هذا النبي؟

_ محمد بن عبد الله، هو رسول المسلمين! وهو إبن خالي، وزوج عمتي خديجة بنت خويلد.

_ أنت ابن عمة نبي ؟!

إنها دهشة الحوار والكتابة الإبداعية التي أمتعنا بها الراوي، والتسلسل في أحداثها بحيث أنك لا تستطيع أن تنفك منها، وهذا دلالة علي أن الراوي له إستراتيجياته في الكتابة، بالإضافة لأنه يمتلك ناصية من المهارات لتحقيق التواصل والإحاطة المعلوماتية الدقيقة من خلال الخيال والحقائق، للإقناع والتفاعل مع الآخرين داخل النص.

ثم يواصل (الزبير) الحوار مع (سيسي):

_ نعم .. أمي صفية بنت عبد المطلب، وأبوه عبد الله بن عبد المطلب.

وهكذا يسرح بنا الحوار والتخيل. سأل (الزبير) هنا (سيسي) بعد صمت وتفاصيل كثيرة:

_ هل (النجاشي) نصراني؟

_ نعم نعم وكذلك جدي وأمي وأنا.

وكأنما هنا يريد أن يمجد ويفتخر بديانة الكنيسة كما إفتخر له (الزبير) بإبن خاله (محمد) رسول المسلمين، صل الله عليه وسلم، ثم يستمر في مدح جده (دلمار) بأنه يذهب للكنيسة وهو يعرف الأناجيل ويقرأ الكتاب المقدس ، إنه بارع جداً  .. وهو يملك أقدم نسخة من الإنجيل في علوة. توارثها عن أجداده ولكن الكنيسة لا تقدر أن تنتزعها منه لأن لجدي نفوذاً كبيراً عند النجاشي.

          وهكذا تأخذنا رواية (ترجمان الملك) بين هذه الحوارات حتي نهايتها، ولا يمكن لهذا المقال تشريحها كلها، ولكن هذا غيض من فيضٍ كثير للغموض الذي يكتنف التأريخ في هذه الرواية بوصفه معرفة، والتأريخ بوصفه حدثاً هو علامة علي أن التأريخ عبارة عن طريقة منضبطة يريد أن يقولها لنا _  د. عمر فضل الله _ لتصور الماضي. إنها حقاً رواية مختلفة تماماً عما نقرأه في الساحات الأدبية. وهي من روايات التأريخ المشيد بروحية الحداثة والذي بدوره هو تأريخاً تنويرياً يستند إلي تقنيات كـ(البحث في الماضي) والسعي وراء أخلاقيات معينة أرادها الراوي أن تكون سياحية تاريخية روائية بتكنيك المحترف في الكتابة الإبداعية داخل قالب حداثوي كما قرأناه في هذه الرواية التاريخية (ترجمان الملك).

وختماً حاولت جاهداً من خلال هذه الومضة أن أجوس سريعاً مع (حوار الأديان _ Interpath) في ديار مملكة (علوة المسيحية) آخذاً نماذج خفيفة  داخل هذا النص من الرواية التي تجمع أيضاً أنماطاً أدبية أخري .

والله ولي التوفيق والمستعان

                                                                         محمد العكام

                                                                     كسلا _ السودان

                                                                   13/ ديسمبر 2016 م

مقتطفات من رواية نيلوفوبيا – عمر فضل الله: الجنازة


4حفيف المعاول وهي تحفر القبر يهمس لي بأنني السبب في موت صلاح ويتوعدني بنفس المصير. الذين نزلوا داخل اللحد اختفوا عن الأعين يحفرون وأنظر فلا أرى إلا رؤوس (الأجَمَات) والمعاول و(الكواريق) تظهر وتختفي والتراب يطير من داخل اللحد في الهواء ليستقر على جوانب القبر ويؤكد لي موت صلاح. العيلفون كلها اصطفت خلف شيخ الزين إمام مسجد الشيخ ادريس لصلاة الجنازة في ذلك اليوم. ربما اصطفوا ليقدموا التحية لصلاح أو ليعتذروا أنهم لم ينقذوه من النيل. كان في كفنه الأبيض نائماً لم يستيقظ ليقف مع المصلين. وأنا لم أقف معهم ولكنني ذهبت لأنظر داخل القبر. اللحد المحفور فغر فمه وكاد يبتلعني. وحين أجفلتُ همس لي أنه سيأخذ صلاح بدلاً مني حالياً ولكنه لا يطيق الانتظار ليأخذني أيضاً. وسيكون ذلك قريباً جداً. أقرب مما أتصور. وهو الآن مشتاق ليضم صلاح ولو استطاع لزحف نحو الجنازة فأخذها ثم أغلق عليها إلى الأبد. عيون الموتى كانت تخرج من تلك القبور وتحدق فينا من كل مكان، تبحث عني وتتربص بي، وأكفان الأطفال الموتى تطاردني. وتسألني متعجبة كيف لم أمنعه من الذهاب للنيل؟ وأنا الذي ما كنت أعلم أنه سوف يفعلها. ذهب ليلعب مع النيل ولم يكن يدري أن النيل ليس له صديق ولا يحب الأصدقاء. يا أيها الموتى أسألكم بالله هل القبر الذي سيضمه ضمة أبدية أرأف به أم النيل الذي كتم أنفاسه وأخذ روحه وكاد يأخذه ويذهب به عبر البلاد ثم لا يعود؟ اشتهت روحي البائسة أن تتبادل الأمكنة مع روحه المطمئنة ولو قليلاً حتى يسكن رَوْعي ويعود قلبي لمستقره داخل تلك الضلوع. أتمنى أن أُدْفَنَ معه في جوف هذا القبر ولو يوماً واحداً. أرجوك أيها القبر ضمني إليك مع صلاح ثم أغلق أبوابك ولا تفتح لأي طارق أبداً.

شيخ الزين رفع يديه وكبر التكبيرة الأولى لصلاة الجنازة وأنا ركضت وتمددت جوار صلاح على النعش. شيخ الزين نظر إلينا ولم يقطع صلاته. رأيت دمعتين تستبقان على خديه لما رآني ممدداً بجوار الجنازة. نظر إلى الأرض وأكمل. الدمعتان تحدرتا فوق لحيته وتسربتا إلى ذقنه وعنقه وتغير صوته فأصبح مثل أنين المصاب بالحمى حين نطق التكبيرات الثلاث الباقية. والتكبيرات خرجت من جوفه وليس من لسانه. نطقها ولكن بفؤاده والمصلون خلفه رددوها بأفئدتهم التي أخذت تختلج وتهتز. عم حسن كان واقفاً مصطفاً خلف الإمام. نظر إلى جنازة صلاح والناس يصلون عليها. ضربته صاعقة الحزن وذاق جسده رجفة المذبوح. دموعه لم تطق انتظار التكبيرات كلها. ما الذي يجعلها تنتظر؟ وبعضهم قطع الصلاة وأسرع نحوي ليبعدني من الجنازة وأنا تشبثت بها حتى كدت أنزع الكفن من جسد صلاح. وأبعدوني رغماً عني. البصير كان قوياً فحملني بين يديه ورغم أنني عضضته حتى سال الدم من يده إلا أنه لم يتركني وأبعدني عن الجنازة. القبر قوَّسَ ظهره الترابي فوق صلاح كأنه يغار عليه ويخشى أن نحفر فنستعيده. والريح شاركت العيلفون البكاء تحت شجرة السيال وقمرية ناحت قليلاً على الغصن وخنقتها عبرة الحزن فأخرستها، ثم حلقت فوقنا وصفقت بجناحيها ولطمت وهي تغادر المكان، ربما لتبكي حيث لا يسمعها أحد. النساء لا يخرجن مع الجنازة في قريتنا وأمي لم تكن معنا ولم تر ما فعله عم حسن. حين تلفت باحثاً بالغريزة عن ابنه صلاح ليضمه فلم يجده جاء فحملني بين يديه وضمني بقوة. ذراعاه القويتان أوجعتاني لكن دموعه على وجهي وعنقي أوجعتني أكثر وفَطَرَت فؤادي. تلك الدموع بقيت الدهر كله تؤرقني وتفري كبدي. كان صلاح هو وحيده الذي أنجبه عند الكبر. ولكن صلاح ذهب مسرعاً. وعم حسن بحث عن ابنه ليضمه بين ذراعيه وحين لم يجده بكى عليه بصوته العميق المفجوع الممتليء حزناً حتى فقد بصره. رأيته بعد ذلك يمشي ويتخبط في الطرقات على غير هدى وهو يستكشف ما أمامه بعكازته يحركها يميناً وشمالاً حين يسير. كانت طرقات عكازته على الأرض تقول لي أنت السبب! أنت السبب.! أنت فجعتني في ولدي.. كنت إذا رأيت عم حسن يسير في الطريق أفر هارباً وتضطرم أوصالي خوفاً وندماً وأبحث عن البكاء ليريحني فلا أجده.