روعة الأسطورة
بقلم وداد معروف
قراءة في رواية ” أنفاس صليحة ” للدكتور عمر فضل الله
الرواية الفائزة بجائزة كتارا هذا العام عن الرواية المنشورة
” قال لي أبي : يا ولدى إن كنت ضعيف القلب أو كثير الشك أو لست مستعدا أن تتخلى عن واقعك المعتاد فلن أحكي لك حكاية صليحة لأنها أبعد ما تكون عن الواقع، ولهذا فإن أجدادنا لا يقصونها للناس، وإنما يتداولونها بينهم في مجالسهم الخاصة، ولا أخفي شيئا إن قلت إن كلام أبي كان هو الحافز لي لسماع الحكاية التي حدثت منذ زمان قديم،”
تقع الرواية في 245 صفحة ونشرت عام 2017. وظف الدكتور عمر التاريخ؛ استلهمه وعمل فيه بخيال رحب. فالشخصيات في الرواية من صنع الكاتب. فهو لا يكتب توثيقا وإنما يسرد لنا أحداثاً لها بعد تاريخي لكن الكاتب جعلها قاعدة انطلق منها في خيال بعيد. هذا العمل الروائي أجزِمُ إن الكاتب عكف على دراسة هذه الحقبة التاريخية مدة لا يستهان بها، و التي تقع في القرن الخامس عشر حيث سقطت مملكة علوة وعاصمتها سوبا. تاريخ لا نعرفه كثيراً لكن الكاتب أخذنا من يدنا وأعادنا من خلال أنفاس صليحة وعينيها كنافذتين على الماضي. لنشهد علاقتها الوثيقة بجدها عبد الحميد اللقاني والذى بقي لها من أهلها الذين أكلهم الطاعون، حيث كانوا يقيمون في بلاد شنقيط. نقل لنا البيئة العربية الصحراوية بدقة وبتفاصيل مذهلة.
أيضا الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة عبر مغامرة مرعبة للفتاة صليحة وهروبها من بلاد المغرب الأقصى إلى سوبا في السودان، مرت بأهوال وتعلمت تجارب وشاهدت عجائب. عاملت أمناء وخائنين؛ ونجت من الرق بأعجوبة، وهنا أدخلنا الكاتب في حياة تجار الرقيق تلك التجارة الظالمة التي كان البشر هم عمادها وسلعتها.
مضت صليحة للبحث عن جدها الذي ذهب للحج وتركها أمانة عند سيدي محمد فهربت. وكان ما أدهشنا من وصف الصحراء والهجرات العربية إلى السودان والمكائد السياسية التي حيكت في القصور. رأينا كيف سقطت علوة الدولة المسيحية وكيف هاجمها العرب بقيادة عبد الله جماع وكيف حرقها، قتل الكثير وهرب الباقون. رأينا المرأة حينما تتحول لكتلة من حقد فتشتعل وتلقى بحممها لتحرق دولة بأكملها. بانتقام دوانة تلك الأميرة المسيحية التي قتلوا زوجها و الذى كان آخر ملوك العنج في سوبا، وصلبوه وقطعوا رأسه، كل ذلك أمامها ثم علقوا جثته على سور المدينة، حتى أنها هربت من الملك و الكهنة و عاشت مع ابنتها أونتي حياة كالكلاب تنتقل بين الظلال وتقيل تحت الأشجار و تنام على التراب لعشر سنوات ثم عادت لتنتقم .
الرواية فيها الكثير الذى أراد قوله د. عمر فضل الله . فيها فلسفته و فيها نظرته ورمزيته التي أراد أن يجعل صليحة تلك الفتاة التي لم تكن موجودة في التاريخ لكنه أبدعها من بنات خياله و جعلها معادلا للخير القادم و المستقبل الأمن.
استعمل د. عمر عبارات حوارية من اللهجة المغربية ونوه لذلك وهذا أيضا جديد علينا. وفي المجمل فإن لغة الرواية لغة عذبة راقية. جعل في الرواية لكل منطقة انتقل إليها السرد لغتها ومصطلحاتها ومدلولاتها التي تعلم القارئ مالم يكن يعلم. استفاد في تعريف القبائل العربية من النسابة التقليدية في السودان فقد ذكر أسماء القبائل بغزارة وعدد النسب ربما للجد السادس وهذا وحده جهد لا يستهان به.
في الرواية عرفنا كيف أصبح مجتمع سوبا مجتمعا هجينا من النوبة والعرب وأجناس أخرى وكلهم تعايش وكلهم يقبلون بعضهم وذلك لأن السودان الطيب يتسع للجميع.
كان أجمل ما أمتعنى في الرواية وكلها ممتع هو ذلك الوصف الدقيق لبيئة لا أعرفها ولم تطأها قدماي. بيئة الصحراء وطريق الحج ومجتمع الخيام في قبائل الطوارق والنوبة وقوافل الحجيج وقطاع الطرق وتجار الرقيق ورحلاتهم وتجارتهم الظالمة، وصف لبس الكهنة النبراس والنويتات والبلينات.
الحقيقة أن هذه الرواية جعلتنا نشتم رائحة الأماكن ونحس بسخونة أقدام صليحة حينما طار منها سباطُها فلسعتها رمال الصحراء في مغامرتها الخطيرة
أنفاس صليحة هي رواية المعرفة ومداعبة التاريخ وتجسيد جميل لشخصيات التخييل السردي.
هذا العمل الروائي الكبير أتمنى أن أراه على شاشة السينما أو التليفزيون فهو إضافة لا شك لوعى المشاهد. كل الشكر للكاتب الروائي د. عمر فضل الله هذه الساعات المحتشدة بالجمال والمعرفة والفن السردي النادر.
وداد معروف.