ترجمان الملك (١)
عندما تنتهي من قراءة الرواية تشعر للوهلة الأولى أنك في نزهة فكرية حقيقية تتحرر فيها من واقع أليم وحاضر أكثر إيلاما بعد أن عشت في حقبة بيضاء ناصعة البياض إبان فترة تاريخية ملهمة شهدت أحداثا تاريخية جساما.
عمر فضل الله كاتب من العيار الثقيل يمتلك جيدا زمام لغته فيجعلك تغوص في أحراش إفريقيا فتتنسم هواءها تارة وتلهب سياط شمسها ظهرك تارة أخري.
يصدمك بواقع مرير بأدغال الغابات فتري الأفيال وقطعان الزراف. يبهرك ويسعدك ببهاء ظلال الأشجار الكثيفة فتري صفحة النيل العظيم تنظر إليك مع زقزقة الطيور التي تسكن هذه الأشجار فتصعد إليها لتنظر في هلع إلي التماسيح التي تحيط بك.
يبني الكاتب في روايته هذه بناء فريدا يختلف تماما عن بناء نجيب محفوظ المغرق في الواقعية، كما يختلف عن بناء يوسف السباعي المغرق في الرومانسية، ويختلف أيضا عن بنيان الطيب صالح في موسم هجرته إلي الشمال وعالمه الحداثي ومفرداته التي تختلف كما وكيفا عن عمر فضل الله.
أزعم بيقين عن قراءة متعمقة ودراسة واعية متفهمة بعيدا عن كل مدارس النقد التقليدية والحديثة وبعيدا عن مناهج النقد المستوردة أن هذه الرواية حالة خاصة في تاريخ الرواية العربية كما أنها فتح جديد في عالم الرواية بشكل عام وعالم الرواية العربية بشكل خاص، وسأحاول أن أثبت زعمي اليقيني هذا بأدلة علمية وبراهين واضحة.
الرواية مكتوبة بلغة عربية سليمة واضحة، وليست هذه اللغة التي تتدفق من بين أصابع الكاتب لغة الفصحي التراثية المقعرة الصعبة المعقدة التي رأيناها في سارة رواية العقاد اليتيمة، أو لغة طه حسين الصلبة الجافة التي رأيناها في الأيام تخلو من حيوية سرد الرواية التي نسعد بها في روايات توفيق الحكيم، ولكنها لغة خاصة بعمر فضل الله.
إنها لغة يتفرد بها لأنها إحدى مبتكراته السردية، فهي أولا لغة يسيرة وسهلة إلي حد البساطة تقترب من لغة نجيب محفوظ في رواياته الواقعية التي تغوص بك في عالم سعيد مهران لصه البطل في اللص والكلاب ولغة حميدة في زقاق المدق ولغة عامر وجدي في المرايا. فاللغة عند عمر فضل الله واقعية سلسة يفهمها الجميع دوت تقغر أو تشدق أو تفيقه.
ولغة الكاتب ثانيا موحية لأبعد مدي. تجعلك لغة الكاتب تترقب وأن تقبل علي مدينته التي بناها بحرفية عالية وهندسة معمارية راقية. تشعر وأنت تقرأ بأن قلبك يدق تأهبا لكل ما سيقع من أحداث. اللغة لدي الكاتب ذات جرس متميز…
ترجمان الملك(٢)
لغة عمر فضل الله ثانيا موحية تدفعك إلي توقع الأحداث منتظرا الخير والشر والحب والخلاص والأمل.
لغة الكاتب ثالثا وظيفية حيث أراد الكاتب أن تكون لغته معبرة أولا عن موقفه وقضاياه التي يطرحها ويريد لها تبريرا، كما يستخدمها لإقناع القارئ بوجهة نظره والوجهة التي يريد أن يأخذه فيها، ولذلك لا يجد المؤلف حرجا أن يقتبس من آيات القرآن والإنجيل كيفما شاء، هذا من ناحية ومن ناحية أخري لغة الكاتب وظيفية لأن المؤلف أراد لها أن تعبر سردا وحوارا عن شخصياته الروائية بكل عمق.
ذكاء الكاتب وموهبته الفذة تدفعك إلي أن تتقبل لغته في سبيل شخصياته للحب أو للتحرر أو للخوف أو للأمل أو للوصف.
لغة الكاتب رابعا درامية. أعني بدرامية اللغة حرصها علي أن تدفعك حثيثا لتجري لا خلف الأحداث وحدها وإنما خلف مكنون كل شخصية بعد أن نجح كاتبها في إبراز كل جانب من جوانبها الجوانية والبرانية والاجتماعية.
السمة الخامسة من سمات لغة عمر فضل الله أنها كائن حي يمكنك أن تراه ناميا وكأنه يتمثل بشرا سويا، وهذا يعني حيوية اللغة وتلقائيتها سردا كانت أو حوارا. فلغة الطفل ليست كلغة الجد، ولغة المحب ليست كلغة التاجر، ولغة الملك ليست كلغة النساء اللاتي أحطن بالملك الذي تم أسره.
اللغة الحية تتضح جليا وتتناثر مفرداتها بين الشخصيات الطيبة فنراها سعيدة فرحة بانتصار الحرية ورجوع الحق لأصحابه، وتتجلي حيويتها أكثر في ربوع سوق العبيد ولدي الساحرة وفي طلاسم الأساطير، كما نجدها حية في أرقي درجاتها مع آيات القرآن الكريم وتشعر وكأنها ذات أرجل تمشي في المناظرة التاريخية بين المهاجرين المسلمين الأوائل إلي الحبشة ضد من أرسلتهم قريش من الكفار لمطاردة مهاجري المسلمين طالبين من الملك تسليمهم.
لغة الكاتب كرؤيته متميزة وتستحق أن يفرد لها العديد من الدراسات السيميائية كجانب مهم في رواية الأديب عمر فضل الله الأثيرة بالنسبة لي كأول عمل روائي له أتعرض بدراسته ونقده وتحليله.
أود أن أوجه نظر الباحثين إلي ضرورة تناول الدال والمدلول في هذه الرواية وصولا إلي القوة الفاعلة وأهمية دراسة مدي قوة التناص في هذه الرواية، وهذا ما سأتناوله في الحلقة القادمة من سلسلتي عن هذه الرواية الثمينة.
ترجمان الملك (٣)
هل النص هو اللغة أم أن اللغة هي النص؟! لا نريد أن نستفيض كثيرا في هذا السؤال متابعة لأنصار العلامة دي سوسير ورفاقه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا تعد هذه الرواية عملا استثنائيا وإبداعا منقطع النظير يستحق أن نطلق عليه فتحا جديدا في مجال الرواية؟!
ليسمح لي القارئ في محاولتي توضيح نظريتي هذه بأن أقول إن الرواية لا تعد مجرد حكاية لقصة يعلمها الجميع ولا يعرفها المسلمون وحدهم، بل يعرفها كل باحث في التاريخ.
في مقابلة هاتفية بعد لقاء حقيقي مع عمر فضل عمر فضل الله اعترف لي قائلا وهو يبتسم:
” لقد ولدت في القرية التي تدور فيها أحداث الرواية، وكل أهل القرية يعرفونها “
والرواية مليئة بنصوص من القرآن الكريم وآيات من الإنجيل.
لو كان الأمر مشكلة تناص وأن الكاتب لم يضف شيئا من عنده في صفحات الرواية التي تقارب الثلاثمائة صفحة وبالتحديد تقع في مائتين وست وثمانين صفحة، لما اعتبرنا الرواية عبقرية حقيقية علي اعتبار أن الكاتب لم يأت بجديد، لأن ما جاء به لم يكن نتيجة شيطان أدبه ونتاج فكره، لأنه يسرد أحداثا يعرفها الجميع وتتعلق بهجرة المسلمين الأوائل إلي الحبشة واستقبال النجاشي لهم وإكرامهم ورفض تسليمهم إلي الكفار الذين أرسلتهم قريش لردهم مرة ثانية ليسوموهم سوء العذاب.
كما لا تعد الرواية مجرد سرد لآيات القرآن وحجج هؤلا، المسلمين الأوائل المهاجرين إلي الحبشة فرارا بدينهم وهربا بإسلامهم من جبروت و ظلم كفار قريش.
تري لماذا تنجح الرواية في شد انتباه القراء وجذبهم لإتمام الرواية وقراءتها مرة ثانية وثالثة؟!
لعل هذا هو السؤال الأكثر أهمية، وذلك لأني لا أعد الرواية تاريخية ولا دينية، ولكن أعدها رواية إنسانية تتجلي فيها أسمي معاني الإنسانية من كراهية الظلم وكراهية العبودية والرق وإعلاء قيم الحب والعدل والخير والجمال، ناهيك عن اهتمام الكاتب بالمؤثرات الدرامية التي أود أن أفرد لها عدة مقالات جديدة تتعلق أولا بالسخرية والمقالب الدرامية والحب والمفاجآت وتغيير الإيقاع والسمو بالنفس البشرية .
إنها باختصار رواية إنسانية لكاتب أشد إنسانية برواية تنتصر للإنسانية، ولعل هذا أهم سمات نجاح هذه الرواية.
ترجمان الملك (٤)
بين التناص وموت المؤلف…
بعد أن قرأت رواية عمر فضل الله ترجمان الملك عدة مرات وجدتني أقابل رولان بارت وأطلب منه أن أتحاور معه. رحب بي مبتسما وأشار لي أن أجلس قبالته. بادرني في هدوء:
– ماذا تريد يا ابن درويش؟!
– في الحقيقة يا عمنا رولان بارت ..
– هات من الآخر
– أصل
– بلا أصل بلا فصل يا درويش. هات ما عندك
– أصل نظرية موت المؤلف التي فلقت بها رؤوسنا لا تنطبق علي ترجمان الملك
– يا سلام!! نظرية اعترف بها معظم النقاد في زماني وبعد موتي وتقول إنها لا تنطبق علي ترجمان الملك؟!
– أصل عمر فضل الله كتب الرواية بعد موتك بكثير
رأيته يمسك عصاه الغليظة ويجري خلفي منفعلا، وما أن مست عصاه ظهري إلا وأفقت مبتسما!!
والحقيقة أن فحوي نظرية موت المؤلف تنطلق من افتراض مؤداه أن المؤلف لا يأتي بجديد، لأن كل شئ في الدراما عامة والرواية بشكل خاص قد تم تناوله من قبل في أعمال السابقين، كما أن أرسطو وغيره من السابقين تحدثوا في كل شئ وحصروا لنا الأفكار الدرامية كاملة، فماذا بقي للكتاب المتأخرين؟!
ولقد حاول كثيرون التأكيد علي إيمانهم بهذه النظرية، وليس ببعيد أن يصدر جورج بولتي كتابه الشهير عن المواقف الدرامية المكرورة والتي يحفظها كتاب السيناريو والدراما في ستة وثلاثين موقفا دراميا!!
وأزعم أن عمر فضل الله لم يمت، ولعله يحق لي أن أصرخ قائلا:
– عمر فضل الله لم يمت. المؤلف لم يمت.
وهناك العديد من وجهات النظر النقدية التي فجرت في نفس اتجاه رولان بارت، بل وتعدته إلي موت النص وموت الناقد وموت القارئ!!
ماذا بقي للفن إذا؟!
أراني بعد سحب كتبي من المكتبة وانهماكي الشديد في القراءة لنقد نظرية موت المؤلف، تدخل علي جوليا كريستيفا وتمسك بيدي وهي تصيح:
– ابن درويش، أغضبت رولان بارت فهل ستغضبني وترفض نظريتي الخاصة بالتناص؟! المؤلف لا يقول شىئا. كل ما تقوله أو تقول شخصياته قيل من قبل وستجد له أثرا في الأدب من قبل.
ما أن انتهت من كلماتها إلا ودخل علينا باختين. أخذ بيدها وهددني بغضب شديد ولم يلق السلام علي.
خرجا وتركاني أتناعس علي أوراق كتبي حتي أفقت لأتحدث معكم عن السبب الذي يجعلني أرفض نظريتي موت المؤلف والتناص في رواية ترجمان الملك.
والحقيقة أنني أري المؤلف لم يمت في هذه الرواية لعدة أسباب: الأول أن المؤلف فرض شخصيته علي النص وأدخل فيها من روحه الشخصية التي عرفتها منذ أول وهلة قابلته فيها،
يتبع .
ترجمان الملك (٥)
بين التناص وموت المؤلف…
السبب الأول لرفضي نظرية موت المؤلف في هذه الرواية أن الكاتب أدخل علي الرواية من شخصيته وبني بنيانه الروائي بروح منه، فهو هادئ هدوء ترجمان الملك الجد ومحب للحياة حب حفيده لها، ومفعم بالحيوية كالملك الشاب وسنجاتا، كما أنه بليغ الحجة ورافض للعبودية والسحر، ناهيك عن أنه أدخل هويته المسلمة بالرواية للدفاع عن دينه وإظهار الخطأ في الأديان الأخري.
السبب الثاني لعدم موت المؤلف أنه يحب ويكره، وهذا يعني أن المؤلف شخصية حية مفعمة بالحياة إذ ينتصر للإنسانية ولروح التحرر ويكره الرق واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان. يحب الخير ويكره الشر ويتضح هذا طيلة الرواية فكيف نقول بموت المؤلف.
ثالثا أن المؤلف نراه مفكرا وحكيما طول الوقت، وليس هذا علي لسان شخصياته وأفعالهم فحسب، بل الحجج المنطقية والتفكير الذي يقودنا إليه باقتدار وخصوصا عند الحوار مع القساوسة وكهنة الكنيسة وعند التفكير بشكل عام بعد نهاية الرواية والثقة بأن هذا الكون لم يخلق سدي.
ورابعا المؤلف ينتقي ويختار مما يؤكد علي حياة عمر فضل الله وخصوصا في هذه الرواية حيث أنه انتقي شخصيات بعينها وركز عليها، في حين أغفل شخصيات أخري أو تجاهلها، ليس هذا فحسب، بل انتقائه البارع للأحداث بلقاء الملك بالساحرة، ثم آلام وقوعه بالأسر، ناهيك عن الحميمية الشديدة بين ترجمان الملك وحفيده والملك.
هذه الانتقائية المبدعة للشخصيات والأحداث تؤكد مع الأسباب السابق ذكرها علي عدم موت المؤلف.
فلنعد إذا إلي التناص مع نظرة لجوليا حيث نؤكد علي عدم صحة فكرتها، والسبب الرئيسي في هذه الرواية أن المؤلف كتبها بلغة عربية سليمة، وفي كثير من الأحيان بالتشكيل ضما وكسرا وفتحا وسكونا وتنوينا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري أن الكاتب عمد إلي اختيار الألفاظ ووضعها في مكانها، حسب شخصياتها فأسلوب كل شخصية يختلف عن الأخري.
دقة الكاتب في اختيار الألفاظ أبعدته عن الوقوع في مصيدة التناص، كما أن اختياره للآيات في القرآن والإنجيل ونسجها في إطار فكري معين يؤكد أن للكاتب رؤية وهدفا يسعي للوصول إليها، كما أن الأصوات العديدة في الرواية والنصوص المقتبس عنها كلها خيوط في يد الكاتب.
الشئ الوحيد الذي يمكن أن تصدق فيه جوليا كريستيفا والذي يحسب علي المؤلف ولعه الشديد والذي يكاد أن يصل إلي درجة العشق بشخصية الزبير التي لم يعشقها حفيد الترجمان ….يتبع
ترجمان الملك (٦)
بين التناص وموت المؤلف
بقية المقال…
أقول أن حفيد ترجمان الملك والذي صار فيما بعد ترجمان الملك ليس وحده هو الذي وقع في غرام شخصية الزبير، ولكن عمر فضل الله أيضا وقع في غرامه وأعجب به أيما إعجاب .
لعل هذا يدفعنا إلي نص ٱخر، ولكنه يتعلق بالسينما، ففي فيلم الرسالة كان مصطفي العقاد مخرج هذا الفيلم العالمي مغرما حقا وواقعا في حب شخصيته الرئيسية، والتي يمثلها البطل عبدالله غيث في النسخة العربية وأنطوني كوين في النسخة الأمريكية، شخصية حمزة بن عبدالمطلب أسد الله.
قد يكون مصطلح التناص هنا صحيحا إلي حد ما، ولكن هذا يدفعنا إلي سؤال أكبر:
ومن من الروائيين لم يحب شخصيات أبطاله؟!
أعترف أنني أيضا كروائي وناقد بأنني أحب أسد الله حمزة والزبير، لأنها نماذج تحب وتعشق.
أعترف أيضا بأنني أحببت كل شخصياتي الروائية وتعاطفت معها. أحببت.سلطان عبدالغني في روايتي الغيبوبة، وأحببت عبدالله المصري في روايتي سارة العسكر وأصداء الخيال، كنموذجين.
أعترف في نهاية مقالتي هذه عن رواية ترجمان الملك للمبدع عمر فضل الله أنني أحببت سنجاتا والزبير وترجمان الملك كما أحببت النجاشي الملك الشاب، ومن قبل كل هذا أحببت الروائي المبدع عمر فضل الله ولعل سلسلة مقالاتي هذه والقادمة منها تلقي الضوء علي رواية أظنها ستخلد في وجدان أدبنا العربي الحديث والمعاصر، ولعل الله قد سخر قلمي لها ليأتي النقاد من بعدي ليوضحوا لي ما خفي عني وليحتفلوا برواية أعدها فتحا جديدا في مجال الرواية العربية ..
الفن محاولة للتعبير عن الحياة وتفسير الواقع ونظرة ذاتية يحاول المؤلف أن يصبغها بالموضوعية، وكثير من الباحثين حاولوا أن يضعوا شروطا للعمل الفني الناجح، مع علم الجميع ويقينهم بأن أول قاعدة في الفن أنه لا توجد قواعد أو شروط في الفن!!
ومع ذلك فإيمان النقاد بأنه مع الفن لا قواعد، لم يمنع كثيرون من محاولة وضع أطر عامة أو تنظيم حدود تنصف العمل الإبداعي الجيد كالحيدة والموضوعية والإبهار وجذب القارئ و…. إلخ من الأطر النظرية والمحاولات العلمية.
وبعيدا عن هذه الاختلافات العلمية والقواعد المزعومة أعتقد أن هناك شروطا ثلاثة قد يتفق عليها النقاد تجعل العمل فنا يستحق الإشادة به مهما اختلف النقاد: الأول أن يثير العمل الذهن بالتفكير وأن يتسم نتيجة لهذا بالعمق، والثاني أن يثير الأحاسيس والمشاعر النبيلة، والثالث أن يصل بك إلي قناعة تامة بأن كل شئ بالعالم يسير وفقا لتخطيط رفيع وحكمة بالغة وأنه لا شئ يحدث بالعالم سدي بل لابد من حكيم خبير يسير شؤون الكون وينظمه ويديره.
الشرط الأول يتوافر في ترجمان الملك بداية من الصفحات الأولي، فأسلوب الكاتب يتوافق تماما مع مفهوم كتاب الدراما والذي يعنون به الخطاف والكلمة ترجمة للفظة Hook وتعني بالإنجليزية الصنارة أو الآلة التي يستخدمها الصيادون لصيد السمك.
خطاف الرواية يتمثل في قدرة الكاتب علي استثارتك وجذبك إلي روايته متذرعا باللغة القوية تارة وباستثارة عاطفة الحب تارة أخري.
يمتلك الكاتب أدواته الروائية جدا فمن لا يستميله الحب تستميله أساليب أخري ككراهية الظلم، وبشاعة القسوة والحاجة إلي الإحساس بضرورة انتصار الحق وقهر الباطل.
سعي الكاتب أيضا لإعمال العقل في كثير من الحجج الفكرية والمناوشات العقلية في أماكن مختلفة من الرواية.
وبالنسبة للشرط الثاني إثارة المشاعر النبيلة لا الغرائز فنجده متوفرا في مواطن كثيرة من الرواية كحب الابن والحفيد ووفاء الابن والأم والزوجة، بل إنني أزعم أن الرواية مترفة بمشاعر نبيلة راقية سامية لن يعرفها إلا من يغوص في الرواية.
أما الشرط الثالث فيتجلي
ترجمان الملك فن حقيقي (٨)
هناك إذا ثلاثة شروط يتفق معظم النقاد علي ضرورة توفرها في العمل الأدبي ليصبح فنا، وأزعم يقينا بأن هذه الشروط تنطبق حقا علي رواية ترجمان الملك للروائي عمر فضل الله وتحدثت عن الشرطين الأول والثاني بضرورة أن تثير الرواية التفكير وأن تستثير المشاعر والأحاسيس، والآن أتناول الشرط الثالث والذي يعني بأن تصل بك الرواية إلي الإيمان بأن هذا الكون له صانع مدبر وحكيم مقدر وإله مبدع مسيطر.
لا أقصد بهذا أن تكون الرواية داعية لأيديولوجية بعينها أو أن تبشر بدين بعينه، وإنما أن تصل بك الرواية إلي القوة الخارقة التي تهيمن علي هذا الكون لتحتمي فيها بضعفك وتفسر فيها عجزك وتشعر في عظمتها بنقصك.
كثير من قرائي قد يتعجبون فهناك أدباء ملحدون وقراء لا يؤمنون بدين أو يعترفون بإله، ولكن هذا لا يعني أنهم ينكرون الموت، ويعترفون ولو خفية بأنه لابد من قوة حقيقية تسير هذا الكون بنظامه الدقيق المحكم.
ولست هنا بصدد بيان فساد فكرهم أو محاورتهم، ولكن يكفيني قوله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ويكفيني إشعار العمل من يقرؤه بالضمير وإشعاره بلذة انتصار الحق وعودة الحق الضائع، يكفيني إحساس المتلقي وشعوره بالفرح لنصرة الحق وإن كان ضعيفا، واندحار الباطل مهما كان قويا جبارا عالي الصوت. فرحة المظلوم باسترداد الحق من سطوة أهل الشر والظلم والباطل.
إحساسك بسعادة البسطاء وترديدهم وأنت معهم وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
يكفيني أن يفرح القارئ مع شخوصه في الرواية والذين تعلق بهم وأحبهم.
يكفيني أن تسيل دموع القارئ علي الضعفاء الفقراء الذين غدر بهم الظالمون ونقضوا معهم العهود كما تكفيني فرحة نبعت من قلوب المساكين الذين لا رب لهم سوي الله فيدعونه ولا إله لهم سوي الجبار فيرجونه ويتضرعون إليه.
لم أتمالك دمعاتي في كثير من المواضع بالرواية، ولكن ثقتي بأنه موجود إله عظيم رب خالق معبود مطلع علي كل شئ عالم بكل نفس يري ويمهل ولا يهمل يعطي ويهب ويمنح البسطاء الضعفاء وينتقم من الظالمين الأقوياء.
الشرط الثالث هذا يتفق تماما مع مفهوم الدراما وتعريفها حسب أرسطو بأنها محاكاة لفعل نبيل تام لها طول معلوم تؤدي ولا تقال و تثير في النفس الشفقة والخوف لدي المتلقين، وهذا بالفعل ما يطلق عليه أرسطو في كتابه فن الشعر التطهير Catharisis.
وتلمح بالرواية في معظم شخصياتها رئيسية كانت أم ثانوية…
ترجمان الملك (٩)
المؤثرات الفنية في رواية ترجمان الملك للروائي السوداني المبدع عمر فضل عمر فضل الله كثيرة ومتنوعة، لدرجة تدفعني ليس فقط إلي إبداء الدهشة، ولكن أيضا إلي مزيد من التعجب والتساؤل عن قدرات الكاتب علي حشد كل هذا الكم من المؤثرات في رواية واحدة!!
كنت في عام ٢٠٠٦ أعد كتابا بعنوان الدراما في الراديو والتليفزيون ثم أعادت دار عالم الكتب المصريه نشره في عام ٢٠١١ بنفس العنوان، وكنت قد كتبت فيه جزء كبيرا عن المؤثرات الدرامية في الرواية، فإذا بي وأنا أقرأ ترجمان الملك في ٢٠١٩ أكتشف أن عمر فضل الله قد جمع كافة هذه المؤثرات بعبقرية فذة وقدرة هائلة تجعلني أضع هذه الرواية في مصاف الروايات العربية الكبري.
يذكر تيم كروك Tim Crook أن من أهم المؤثرات الدرامية التي تجذب الجمهور إلي أي عمل درامي المفاجأة، وإثارة روح المرح والدعابة والتوتر.
نبدأ أولا بالمفاجأة، فالرواية حافلة بكم كبير من المفاجآت والحوادث غير المتوقعة والتي برع الكاتب في أن يصدمنا بها، فعلي سبيل المثال لا الحصر نعرف أن والد الصبي راوي القصة غير موجود ويظن الجميع أنه قد مات، ولكننا نفاجأ في نهاية الرواية بأنه علي قيد الحياة، وعندما تتم مطاردة تاجر العبيد ويتم القبض عليه نفاجأ بأنه والده.
المفاجآت عديدة وكثيرة بالرواية، وقد تنشأ هذه المفاجآت بالصدمة عندما تكون علي غير توقعنا، فمن يتخيل أن يتم أسر ابن الملك وأن يباع في سوق العبيد وأن يضرب أو يهان؟! من يتوقع أن يحمي الملك النصراني مهاجري الإسلام الأوائل إلي الحبشة وأن يدخل في صراع مع الكهنة؟!
المؤثر الدرامي الثاني يتمثل في إثارة التوتر الذي يطل علينا برأسه من أول الرواية وحتي نهايتها، وهو ما يطلق عليه أساتذة الدراما خلق روح التشويق واستخدام حججه المختلفة لجذب القارئ وربطه بالرواية.
روح التشويق بترجمان الملك ترتبط ارتباطا عضويا بالبناء الدرامي المحكم الذي بناه المؤلف بداية بفكرة قوية تلتحم بشخصيات رسمها بقدر بالغ من المهارة مرورا بحبكة قوية وصراع أكسبها زيا براقا يشد القارئ من بداية العمل فيظل متابعا له حتي آخر جملة من جمل الرواية.
التوتر يسيطر علي القارئ لا من أجل معرفة ما سيحدث فقط، وإنما لأنه يرتبط بالشخصيات التي يحبها ويخاف منها وعليها.
الخوف من الشخصيات ينبع من أن تسلك سلوكا خطأ فتحاسب عليه والخوف عليها من تدبير الشخصيات العدائية ومن ثم نظل في حالة حيرة وقلق
ترجمان الملك (١٠)
المؤثرات الدرامية في الرواية
لم يكتف الروائي عمر فضل الله في روايته بالمفاجأة وإثارة روح التوتر والترقب فقط كمؤثرات درامية، ولكنه لجأ إلي استخدام مؤثرات أخري سنتحدث عنها بالتفصيل هنا، وذلك بالإضافة إلي مؤثراته الخاصة بالأسلوبية والدلالية ناهيك عن الشكلانية المفرطة التي تميز الرواية من بدايتها، والتي سنفرد لها دراسة مستقلة فيما بعد وأرجو من النقاد أن يتناولوا هذه الجوانب في دراسات تالية.
أجمل المؤثرات الدرامية الخمسة التي برع عمر فضل الله فيها كما يلي:
أولا الحوار المؤثر والحي والذي يصل في بعض الأحوال إلي أن يكون نابضا بالحياة، والكاتب في هذا يتميز بتطبيق نظرية بيتر مايوكس
Peter Mayeux
حيث يحافظ الكاتب علي الحوار فيبدو وكأنه طبيعي مناسب للشخصية، وتحس بأن الشخصية تتحدث بتلقائيتها وكأن شلالا من الكلمات يخرج منها، والحوار في الرواية لا يعبر عن طبيعة الشخصيات فحسب، ولكنه يعبر أيضا عن تكوينها السيكولوجي والسيسيولوجي، فناهيك عن حيويته تجده دافعا للأحداث وموحيا بالجو النفسي في إطار بناء فريد يجيده الروائي فتشعر لا بنبضات قلب الشخصيات ، وإنما بنبضات قلبك تترقب ما سيحدث. الحوار أيضا دافع للتشويق والاختلاف في البناء الدرامي، فحوار الطفل ولغته يختلفان عن لغة الملك وألفاظ العبيد تختلف عن ألفاظ تجار الرقيق والساحرات، ولغة المسلمين المهاجرين الأوائل تختلف عن لغة الكهنة والقساوسة ناهيك عن مظهرهم وسلوكياتهم.
الحوار طبيعي وتلقائي مناسب لطبيعة المواقف ذو رتم مختلف وتراكيب لغوية فريدة.
ثانيا التشويق المتوازي وهناك أكثر من معني له حيث لا يعني فقط توقع سير الأحداث لكل شخصية علي حدة، بل يقصد به خلق تشويق نابع من التباين لا في طبيعة الشخصيات فحسب، أو التنويع في الإيقاع الدرامي للأحداث فحسب، ولكن الرتم العام للأحداث والشخصيات في آن واحد، ويقصد بعض نقاد الدراما بالتشويق المتوازي الذي طرفاه القارئ كقارئ ومتوقع، فإن صدقت توقعاته مع ما سيره المؤلف من أحداث فرح واستبشر وواصل القراءة، وإن حدث العكس واصل قراءته متشوقا ليعرف الأسباب والمبررات. يذكر بعض النقاد في هذا الصدد أن التشويق المتوازي يحدث لتعارض الشخصيات ما بين طيبة وشريرة، متفائلة ومتشائمة، سعيدة وحزينة، رئيسية وثانوية، والكاتب يصهر كل هذا ببوتقة واحدة ينتج عنها تشويق متواز، والرواية ممتلئة بأمثلة لا مجال لشرحها