رواية عمر فضل الله: نيلوفوبيا موسوعة اجتماعية نفسية تاريخية – بقلم السيد الراعي


الدكتور/ عمر فضل الله
رواية ” نيلوفوبيا ”
الصادرة عن دار مدارات للطباعة والنشر والتوزيع / الخرطوم
الروائي العربي السوداني
الحائز على جائز الطيب صالح العالمية في الرواية
الرواية موسوعة اجتماعية نفسية تاريخية، أبدع فيها الكاتب الدكتور عمر فضل الله في رسم الشخصيات بتسلسل منطقي بديع تحس فيه بالتلقائية والعذوبة، ظهرت فيه كل شخصية في موعدها تماما موظفة توظيفا دراميا محكما.
بطل الرواية عبد العزيز من مدينة العيلفون السودانية علي ضفاف النيل، يغرق فيه صديقه صلاح جراء تصرف طائش من تصرفات الطفولة، وتصيب عبد العزيز بطلَ الرواية عقدةُ الخوف من النيل، ويؤدي ذلك إلي التأثير السلبي على شخصيته، ويعيش طوال حياته تطارده هذه العقدة، وتحوّل من طفل مسالم هادئ إلي طفل عدواني وسط قرنائه، وكأنه كان يريد أن ينتقم من كل شيء حزنا على صديقه بهذا السلوك، وتيأس أمه من إصلاحه، ثم يُوجَّه لحفظ القرآن الكريم فيختمه ويتقنه؛ وينضبط سلوكه ربما بسبب ما سكن في جوفه من كتاب الله، فأضفى عليه السكينة والهدوء.
تفوق جدا في الرياضيات حتى أصبح يجد ذاتَه في التفاف زملائه حوله ليحل لهم ما صعب من المسائل الرياضية حتى إن أصعب المسائل التي لا يحلها يصعب على مدرس المادة نفسه حلها .
وصف الكاتب الحالة الاجتماعية والسياسية في عهد النميري وصفا دقيقا ببساطة غير مخلة بالتاريخ، تفاعل عبد العزيز مع كل الحركات السياسية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها .
يصف الكاتب “العيلفون” بالمجتمع المليء بالتناقضات ولكنه مجتمع مترابط حين يفرح تعمه كله مظاهر الفرح ووقت الحزن تجزم أن هؤلاء هم ورثة الحياة الآخرة، فيقول: “غير أن العيلفون كما هي قرية صغيرة منزوية في ركن قصي من النيل تندب حظها وتبكي على ماضيها وتتحسر على غضب النميري عليها، فهي لم تشهد تطورا ولا عمرانا ولا نماء بل ازداد الفقراء فقرا، وانحسر الغنى عن الأغنياء والحال تبدلت والبلد أُفقرت والناس هاجروا إلى دول الخليج يطلبون لقمة العيش، تركوا أسرهم وأبناءهم واغتربوا،….. الهجرة فصلتهم عن مجتمعهم وتركت وراءهم أسرا مفككة بلا راعٍ ولا مربٍ ولا وازع، حين تنشأ الأسرة بعيدا عن الأب والزوج والأخ الكبير تنحل القيم وتتعقد المشكلات وتنفصم العرى وتنشأ أجيال من الشباب غير معتمدة على أنفسها، أجيال تنتظر آخر الشهر حيث يرسل الأب التحويلات والمصاريف والثياب والشنط “.
تراكم معرفي كبير بدا من خلال سرده في الرواية يقول: “وأصبحنا نجتمع لنقرأ أشعار السياب ونزار قباني وإيليا أبو ماضي والفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المهدي المجذوب”.
ويقول: “وغالبا ما أكون أقرأ قصة بداية الربيع أو النبع المر أو كلاب القرية أو القفز فوق الحائط القصير لأبي بكر خالد أو لا تطفئ الشمس لإحسان عبد القدوس وغيرها من القصص التي كنت أنهمك في قراءتها وأنا في انتظار الغداء” .
لمس كاتبنا بطريقة حانية شعور البنت التي تأخرت في الزواج يقول بالعامية السودانية على لسانها: “وفي كل مناسبة زواج أو حفلة عرس أمشي ليها، النسوان يعملن نفسهن حكيمات وناصحات فوق راسي. لييه ما اتزوجتِ؟ ولي شنو ما قبلتِ فلان؟ وما في شيء اسمه عريس تفصيلة على مزاجك، وكلام كتير يجرح ، لدرجة أني في مرة وفي حفل خطوبة كنت قاعدة مع بنات عماتي وكلهن يا إما معرسات أو مخطوبات وهن طبعا أصغر مني وأنا كنت خلاص قفلت التلاتين، قعدن يقولن لي شوفي فلانة أصغر منك بعشرة سنوات وتزوجت وأنت لسة ما مخطوبة وما معرسة مستنية شنو؟ – قررت في اللحظة ديك أكون قوية وقلت ليهن والله من كل قلبي زي ما ربنا رزقكم ورزقها بزواج وفرحة أكيد ربنا بيفرحني في يوم من الأيام ”
تخرج عبد العزيز من الجامعة وبدأ رحلة البحث عن عمل ، يقول: “فمن يبحث عن الوظيفة في الخرطوم كمن يبحث عن التعليم في الجامعة لا يجدهما أبدا” ، يتسلم وظيفته كمدرس للرياضيات في “ثانوية الجريف للبنات” ، ويتزوج إحدى مدرساتها، ويسوقه القدر لأن يكون منظما لرحلة لعدد من بنات المدرسة إلى مصر.
يستعرض الكاتب بسلاسة وعذوبة خلال مصاحبته للرحلة بالقطار المعالم والمسافات والمدن والمحطات وحتى ما يقابلونه في هذه الرحلة من البائعات فيقول: ” وأنهم في هذه المحطات النائية يستاهلون أن تعطيهم كل ما عندك عن رضى نفس وطيب خاطر وأنت تعلم أن وراء هذه البائعة النحيفة المرهقة التي أضناها الركض وهي تجري حافية الأقدام بجوار عربات القطار أطفالا صغارا ينتظرون عودة أمهم ببعض قروش لمصاريف البيت أو أبا شيخا كبيرا أقعدته السن عن طلب الكدح في طلب الرزق”
ومن وادي حلفا بالباخرة إلى أسوان عبر بحيرة النوبة يستعرض باستفاضة كل المعالم الأثرية والسياحية، ثم إلى القاهرة والأهرامات وأبو الهول والمتحف المصري والقلعة والسيدة والأزهر وخان الخليلي ومعالم القاهرة وزحمتها وليلها الذي لا ينام وناسها وعاداتهم وقهوة الفيشاوي التي سعدت بنجيب محفوظ كرائد من روادها فخلدها في تاريخ مصر والعرب .
وفي رحلة العودة عبر بحيرة النوبة في الباخرة عشرة رمضان يتجمع العائدون إلى السودان من مسافرين من أضاء الرحلة من منظمين وطالبات ليبلغ عددهم حولي سبعمائة وخمسين شخصا، ومعهم كميات كبيرة من المحروقات بمختلف أنواعها تتعرض الباخر إلى حريق هائل قيل إنه قد يكون بسبب مجموعة إرهابية أرسلها القذافي لإفساد العلاقة بين السودان ومصر فأطلقوا عليها قذائف “الآر بي جيه” فتحولت إلى كتلة من النيران كأنها ساحة حرب، وتحول الركاب الذين كانوا بجوار براميل المحروقات إلى أشلاء متناثرة من اللحم والعظم، وساد الهرج والمرج في السفينة واحترقت أيضا معظم قوارب النجاة، ومن قفز إلى النهر تلقته تماسيح البحرية الجائعة، ومن تمكن منهم من الوصل إلى البر تلقفته العقارب التي كانت منتشرة بالملايين، ثم بعد ذلك افترستهم الذئاب، فلم ينج من هذا الحدث الجلل سوى أقل القليل، ويلقى عبد العزيز حتفه في النيل أيضا بعد قصة مقاومة عنيدة مع النار والموت والنيل .
ويدهشك الكاتب بأن عبد العزيز بطل هذه الرواية ما زال يروي أحداث تلك المأساة مع أنه قد لقي حتفه بأسلوب شيق لم يكتشفه المتلقي إلا في سطور النهاية، فتعود مرة أخرى وتعيد التدقيق لتري متي فقد هذا البطل حياته ، ويتضح أنه واصل رواية المأساة بروحه بعد أن فقد جسده هذه الروح، وهي تهيم حول الأماكن والشوارع والزوجة والأهل وصيوانات العزاء.
وفي عتابه مع النيل لماذا غرق فيه كل هؤلاء على مدار التاريخ يقول النيل: قيل لي: كن ، فكنت ، وأمرت بالجريان فجريت ، أهب الحياة بإذن الله لهذه الرقعة، حول شواطئي تقوم الحضارات وتسقط، والناس يحيون ويموتون، والقرى تنمو وتندثر، أسير بقدر وأفيض بقدر وأغيض بقدر. سريت حين لم تكن ممالك أو دول أو شعوب ، وسريت بعد أن قامت الحضارات وازدهرت. كنت محضنا لضحية النيل عند الوثنيين على مدار القرون ولم تؤد تلك الضحايا إلى أن أفيض أو أغيض. كنت مهدا لنبي الله موسى نبي التوحيد أحنو عليه وأدفعه تجاه قصر الفرعون , وامرأة فرعون وجدته طافيا فوقي فأطلقت عليه اسم ابن الماء ، يعني أن موسى هو ابني فأي شرف تريد أكثر من هذا , وكم من عاشق هام في حب النيل وكم من شاعر تغني للنيل ؟ وكم من القصائد صيغت في مدحه ؟
فإن كنت أنت تهابني فالملايين غيرك يهيمون في شواطئي ومياهي …..
تحاياي الكبيرة للدكتور عمر فضل الله ، التي مهما كبرت فلن تبلغ قدره العظيم الذي أعاشنا على ضفاف النيل واهب الحياة بإذن الله

نُشرت بواسطة

Omar Fadlalla

روائي عالمي من السودان فازت أعماله بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي 2018 وجائزة كتارا للرواية العربية 2018

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.