التصنيف: حوارات ومقابلات صحفية
د.عمر فضل الله: نعتني النّقاد براوي الأسطورة. – حوار عائشة محمد عسيري
حوار/ عائشة محمد عسيري
من بلاد الطيّب صالح، ومن على ضفاف النيل الأزرق، نبتت موهبة غنية بالإبداع، والتميز، كما تنبت الزنابق، وتتفتح. حفظ القرآن، وأنشد الشعر، وأولع بالتاريخ، والحكايات، والأساطير. كل ذلك، أثمر لنا مبدعاً بشكلٍ استثنائيٍ مدهش.
ضيف حوارنا لهذا العدد هو الروائي، والشاعر، والمؤرخ السوداني، الدكتور/ عمر فضل الله.
في مستهل هذا اللقاء يسعدني أن أرحب به، وأن أشكره أن أتاح لنا فرصة محاورته ، ونبدأ معه حوارنا لهذا العدد.
- نبذة تعريفية عن الضيف.
– دكتور عمر، هلا أعطيتنا نبذةً تعريفيةً بك؟
_ ولدت عام 1956 بقرية العيلفون على ضفاف النيل الأزرق ونشأت فيها. حفظت القرآن، والشعر، وقرأت الأدب منذ الصغر.
كنت متفوقاً في جميع المراحل الدراسية، ومن الأوائل في المراحل الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، ومن المتفوقين في الجامعة.
اجتزت امتحانات الشهادة الثانوية بتفوق، وكنت من العشرة الأوائل.
التحقت بجامعة الخرطوم عام 1976، فأمضيت فيها سنة واحدة، ثم غادرتها بسبب الاضطرابات آنذاك، وعدم استقرار الدراسة، فسافرت إلى المملكة العربية السعودية لأكمل تعليمي الجامعي.
حصلت على منحة دراسية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وفيها نلت درجة البكالوريوس بدرجة امتياز عام 1980 – 1981
التحقت بجامعة كاليفورنيا لوس انجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1981، حيث نلت درجتي الماجستير، والدكتوراة عام 1987.
عملت بالمملكة العربية السعودية حتى عام 1991.
عملت محاضراً بالجامعات السودانية، ومؤسساً لعدد من مؤسسات، ومراكز البحوث، والدراسات.
أسست مركز الدراسات الاستراتيجية، والمركز القومي للمعلومات بالسودان، وأسهمت في إنشاء المكتبة الوطنية السودانية.
هاجرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1996، حيث عملت مديراً لمشاريع تقنية المعلومات، وأنظمة الحكومة الإلكترونية بأبوظبي.
المؤهلات الأكاديمية:
دكتوراة علوم الحاسب الآلي تخصص نظم المعلومات جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس 1983 – 1987
ماجستير علوم الحاسب الآلي (نظم المعلومات) جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس 1981 – 1983
بكالوريوس الإعلام والاتصال جامعة الملك عبد العزيز جدة 1976 – 1980
المؤلفات
مؤلفات باللغة العربية:
موسوعة، ومعجم مصطلحات الحاسوب – الهيئة العليا للتعريب – الخرطوم 1994
مجموعة بحوث وأوراق عن التعريف بالشبكة الدولية (الانترنت) 1992 – 1998
دليل أنظمة المعلومات والشبكات في افريقيا. 1995
مجموعة أوراق عن أنظمة المعلومات ضمن أعمال مؤتمر الشبكة القومية للمعلومات بالسودان. 1994
مناهج وكتيبات ومحاضرات لطلبة علوم الحاسوب في جامعة السودان وجامعة الخرطوم وغيرها. 1994
حرب المياه على ضفاف النيل – حلم اسرائيل يتحقق – دراسة عن سد النهضة الإثيوبي وآثاره – دار نهضة مصر 2013
ترجمان الملك – رواية – دار نهضة مصر 2013 (تجري ترجمتها إلى 7 لغات عالمية)
أطياف الكون الآخر – رواية – دار الياسمين – إمارة الشارقة 2014 (تجري ترجمتها إلى 7 لغات عالمية).
زمان الندى والنوار – ديوان شعر – جدة 1990
زمان النوى والنواح – ديوان شعر – ابوظبي 2009
تحقيق كتاب تاريخ وأصول العرب بالسودان للفحل الفكي الطاهر – دار المصورات للنشر – الخرطوم 2015
نيلوفوبيا: رواية – دار مدارات للنشر – 2016
أنفاس صليحة: رواية – دار مدارات للنشر 2017 (الرواية الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الرابعة 2018)
تشريقة المغربي : (الرواية الفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في دورتها الثامنة – 2018)
ذاكرة الأرض: مخطوطة رواية
رؤيا عائشة: مخطوطة رواية
الحيتان لا تطير إلا في سماء برمودا: مخطوطة رواية
نافذة في سماء الكهرمان: مخطوطة رواية
مؤلفات باللغة الإنجليزية:
Automated Libraries 1983
RDBMS on Small Scale Computers. 1987
Fundamentals of Strategic Planning. 1991
The Future of Information Network Systems in the Sudan. 1992
- بَدَأْتُ نظم الشعر مبكراً، لكن تَأخرتُ في كتابة الرواية.
– متى بدأ د/ عمر فضل الله مشواره الأدبي؟
_ بدأت مشواري الأدبي مبكراً في الابتدائية، حين ألفت القصائد، بعدما حفظت الشعر الجاهلي، واشتهرت بكوني شاعر الفصل، ثم شاعر المدرسة، ثم عرفني زملائي الطلاب في جميع المراحل، بكوني شاعراً.
لكن كتابة الرواية، جاءت متأخرة بعد الأربعين! ولبداية كتابتها قصة، فقد نظرت فيما كتبه كثير من الروائيين، فوجدت أن أعمالهم بعضها إسقاطات لسيرة حياتهم، أو سردٌ لواقع مجتمعاتهم، ونظرت أيضاً، فرأيت أن البعض كتب الرواية من أجل إمتاع القارىء، أو زيادة حصيلته في اللغة. وكثيرون كتبوا في الأسطورة، أو الروايات التاريخية، لكنّي لم أجد من كتب رواية معرفية؛ تقدم للقارئ معرفة حقيقية عن التاريخ، والجغرافيا، والأدب، وعلم النفس، وغيرها من المعارف، فعزمت أن أقدّم للقارئ الرواية المعرفية.
- حفظ القرآن، أثر على أعمالي الأدبية لاحقاً.
–من خلال البحث في سيرتك الموفقة، عرفت أنك حفظت القرآن في سن مبكرة. مامدى تأثير ذلك على مسيرتك الأدبية، والعلمية؟
– القرآن نعمة من الله لمن يحفظه، فهو يغير حياته، ويرقّي فهمه، ويصقل معارفه. فقد كان حفظ القرآن في هذه السن حافزاً لي، أثرى مفردات اللغة عندي، ووجدت أن في القرآن الكثير من القصص، والحكمة، والعلوم والمعارف، وأبواب العلوم، فلما شرعت في كتابة الأدب، كان القرآن قد زودني بحصيلة لغوية، ومفردات أدبية، وفهم للحياة، وانعكس ذلك على أعمالي، ومؤلفاتي سواء في الأدب، والرواية، والشعر، أو في غير ذلك من الأعمال العلمية.
- روايتي (ترجمان الملك)، تستحق جائزة نوبل.
– بلاد الطيب صالح عبقري(الهجرة إلى الشمال)، هل نراها تُخرج لنا روايةً خالدةً، في القرن الحادي والعشرين، مماثلةً لرواية الطيب صالح، والتي صُنفت من ضمن أعظم مئة رواية في القرن العشرين؟
_ كنت قد كتبت رواية (ترجمان الملك)، ونشرت عام 2013م؛ لكنها لم تنتشر بالقدر المطلوب، وحينما انتبه الناس إليها مؤخراً، أنصفها النقاد أيّما إنصاف، فقد قدمت حولها أوراق المؤتمرات العلمية، وقال أحد النقاد، وهو الدكتور صبري زمزم: (ترجمان الملك حالة فريدة في الرواية العربية، لا يجرؤ أي أديب مصري أن يكتب بالطريقة؛ التي كتب بها عمر فضل الله في ترجمان الملك، فقد سار فوق الخطوط الحمراء، وعبر دون أن يمسها. عمر فضل الله تفوق على السوداني الطيب صالح، والمصري نجيب محفوظ. ترجمان الملك تستحق نوبل.) وكتب عنها كثير من النقاد، وهي رواية تحكي أحداث الهجرة الأولى للصحابة الكرام إلى الحبشة.
*استحقت أعمالي الفوز بجوائز عالمية.
– الشعر بالنسبة لك موهبةٌ فطريةٌ، وقد نظمته منذ المرحلة المتوسطة، لكن الرواية فنٌ يحتاج إلى الكثير من الجهد، والإبداع لدى الكاتب؛ لينجح فيه، فكيف استطعت أن تنجح في كتابة الرواية، وأن تبدع فيها إلى حد الفوز بجوائز عالمية؟
– قدمت في أعمالي الروائية شيئاً جديداً، من حيث النظرية؛ فقد قدمت نظرية (الرواية المعرفية)، وكتبت في مناطق مجهولة في أعماق افريقيا، وجمعت بين الحقيقة، والخيال، والأسطورة، وكتبت بلغة قال عنها النقاد، إنها لغة سامية متميزة. كنت أكتب الرواية بوجداني؛ فأعيش شخوصها، وأحداثها، لأروي بلسان كل واحد منهم ما أحس به، وأنا أتقمص شخصيته، فجاءت أعمالاً صادقة، استحقت الفوز بالجوائز العالمية.
- أتنقل بين الشعر والرواية والحاسب.
–من يغلب على الدكتور عمر فضل الله، الشعر، أم الرواية، أم التاريخ، أم علم الحاسب الآلي؟
– بدأت بالشعر، وقرأت التاريخ، فساعداني حين كتبت الرواية. واستعنت بما تعلمته في مجال الحاسب الآلي، على أن أقدم أعمالي للناشر مجموعة، ومدققة، وجاهزة للطباعة. حين تتقمصني روح الشاعر، أقول الشعر، وحين أنشط لكتابة الرواية، أتحول سارداً، وبين هذا، وذاك، أعمل في مجال الحاسب الآلي، وتقنياته.
- القصة تزاحم الرواية
–هذا العصر، هو عصر الرواية بامتياز، هذه هي المقولة السائدة في الأوساط الأدبية الآن، فهل تتفق، معهم على صحة ذلك؟ ولماذا حظيت الرواية بكل هذه الحفاوة أكثر من الشعر، والقصة، سواءً لدى الكُتَّاب،أو القراء؟
– ربما قيل إن هذا عصر الرواية، لكثرة كتاب الرواية، وانتشارها، وتقلص مساحة الشعر، لدى أهل العربية، إلا أن القصة تزاحم الرواية أيضاً، فكثير هم كتاب القصص في هذا الزمان، والبعض منهم، ينشر القصص في مواقع التواصل الاجتماعي. أما الشعر فلا يحسنه إلا من أوتي ملكة كتابة الشعر، وعرف الروي، والوزن، والقوافي والعروض، وهم قلة في هذا الزمان. وقل متذوقو الشعر الفصيح.
- إذا لم تقدم الجديد، فلا تكتب الرواية.
–متى يستطيع الكاتب الاتجاه إلى كتابة الرواية؟ وماهي شروط كتابة رواية ناجحة؟
_ كثيرون اتجهوا في هذا الزمان لكتابة الرواية، لكني دائماً أذكر نصيحة أحد النقاد حين قال: إذا لم تستطع أن تقدم للناس الجديد، المفيد، بلغة راقية، ورسالة واعية، ومعالجة عالية؛ تحقق المتعة للقاريء، فينشغل بروايتك عما حوله، ومن حوله، حتى يفرغ من قراءة عملك، ثم يرغب في إعادة الكرة، بعد المرة، ويخرج في كل مرة بفائدة جديدة، وفهم مختلف، ثم يأسف أنه وصل نهاية الرواية بهذه السرعة، فدع كتابة الرواية، فإنك لست من أهلها.
- (تشريقة المغربي) تاريخ حقيقي.
– كيف نجحتَ في توظيف التاريخ في بلادك، في كتابة رواياتك مثل(تشريقة المغربي)، بالرغم من أن الخيال عنصر هام في كتابة الرواية؟
_ مزجت بين الخيال، والحقائق التاريخية، لأطرح أسئلة في فجوات التاريخ؛ توقظ عند القاريء توق العودة لقراءة المجهول من تاريخنا، أو المنسي، والمسكوت عنه. وهكذا تكون الرواية، قد أدت أحد أغراضها، فالرواية لا تحكي تاريخاً، وإنما تحبّب القاريء في قراءة التاريخ. (تشريقة المغربي) -على سبيل المثال- تناولت الهجرة المغاربية نحو المشرق إلى بلاد السودان، فكتبت عن تاريخ حقيقي، من خلال شخوص، وأحداث متخيلة.
- الحقيقة والخيال في شخصيات رواياتي.
–الشخصيات عنصر أساس في الرواية، فمن أين تستمد كل تلك الشخصيات الموجودة في رواياتك؟
_ بعض شخصياتي حقيقية؛ عاشت حياة حقيقية، وتناقل قصصها الناس، جيلاً بعد جيل، وبعضها متخيل من واقع الأحداث، والتاريخ، والمجتمع القديم؛ الذي كتبت عنه. الأشخاص في رواياتي يؤدون أدواراً معينة، لأقدّم عبرهم رؤيتي في الحياة، والتاريخ، وأتحدث -عبرهم- مع القارىء، فهم مجرد وسيلة، وليسوا غاية.
- ( راوي الأسطورة).
-ما نسبة الأسطورة في رواياتك؟وهل تأثرت في ذلك بالثقافات الأجنبية، أم أنها مستمدة من الأساطير في السودان فقط؟
_ لا تكاد رواية من رواياتي، تخلو من الأسطورة، وهي الحكي الشعبي، المتداول، والمتناقل في المنطقة، لكن الأسطورة عندي؛ هي أداة من أدوات التشويق قراءة الرواية. ثم إنّي اَستخدمها لأحدّث القارىء بالمسكوت عنه، أو الممنوع في المجتمعات القديمة؛ التي أكتب حكاياتها، وأسرد واقعها. لم أتأثر في كتاباتي بأي ثقافة أجنبية، رغم أني قرأت الكثير من الأدب العالمي، شرقيه وغربيه. فما عندنا من أساطير محلية، يكفي ويزيد. بل إن كل ما سردته من أساطير، منحصر في منطقة واحدة، في وسط السودان، لدرجة أن بعض النقاد أطلق عليَّ مسمى: (عمر فضل الله راوي الأسطورة).
- هذا ماتناولته روايتي ترجمان الملك.
– روايتك (ترجمان الملك)، حدثنا عنها قليلاً لو سمحت؟
_ هي أول أعمالي الروائية، وقد نشرت عام 2013 م، فهي تجمع بين الخيال، والحقائق التاريخية في قالب إبداعي، وتروي قصة حياة الشاب سيسي بن أبيلو، ذي الستة عشر ربيعاً؛ الذي نشأ في العام 600 للميلاد في منطقة الحبشة القديمة، بوسط أفريقيا، وعاصر الأحداث العاصفة؛ التي شهدتها السنوات الأولى من القرن السابع الميلادي، وعاصر وفود العرب القادمين من مكة للاحتماء بالدولة المسيحية، والنجاشي، ثم الصداقة التي نشأت بينه وبين أحد الشباب العرب القادمين من مكة (الزبير). كما يروي حكاية جده (دلمار بن أرياط)؛ الذي كان يعمل ترجماناً للملك النجاشي، ويسرد صوراً لممارسات تجارة الرق، وبيع العبيد في ذلك الوقت، من خلال مذكرات الملك النجاشي الصغير. وتعكس الرواية الصراع الفكري؛ الذي كان يدور في ذلك الوقت بين الكنيسة، والقصر من خلال حوارات (دلمار) ترجمان الملك مع الكاهن أنطونيوس أسقف الكنيسة في سوبا، والحوارات بين الكاهن أنطونيوس، والشاب سيسي، وبينه وبين الملك النجاشي.
كما تضمنت حوارات الملك مع وفود العرب القادمين من مكة، ووصفت قصر الملك، والكنيسة، والبيوت، والمباني والأسواق في سوبا، وأنماط الحياة، وسبل العيش، والتجارة في مجتمع (سوبا)، ومكونات البيت الأفريقي القديم في مملكة علوة، وواقع المجتمع المسيحي في سوبا، وهيمنة السحرة على بعض جوانب الحياة.
تميزت الرواية، بأنها تناولت بقعة مجهولة من أفريقيا، لم تنل حظها من الاهتمام، كما سلطت الأضواء على إحدى الممالك المسيحية الأفريقية القديمة، وسبل العيش، وأنماط الحياة، والشخصية الأفريقية بجاذبيتها وسحرها.
- أنا مستعد للمغامرة.
–هل الفانتازيا أسهل توظيفاً، أم التاريخ بالنسبة لك في كتابة رواياتك؟
_ كلاهما صعب، عسير؛ فالفانتازيا التي أكتبها مستمدة من حقائق علمية، وليست خيالاً محضاً، ولذا فكأني أمشي فوق الشوك، أو حقل من حقول الألغام؛ لكوني أقدم للقاريء حقائق، ومعلومات علمية، جديدة عليه، ولكن في ثوب روائي، وكذا توظيف التاريخ في الرواية. فأنا لا أكتب تاريخا، وإنما أدخل في فجوات التاريخ غير المدون؛ لأثير أسئلة تحفز القاريء للعودة لقراءة التاريخ، وهذا أمر محاذيره أكبر من فوائده؛ فهو إن لم يجلب السخط على الكاتب، فلن يسلم من القدح في أعماله. لكني مستعد عند كل عمل من أعمالي، لخوض المغامرة ومواجهة عواقبها.
–كيف أفدت من شغفك، وتمكنك من علوم الحاسب الآلي، في مشروعاتك الأدبية؟
– مجال الحاسب الآلي، هو أحد المجالات الممتعة؛ التي تقدح الخيال، وتبقي العقل نشطاً، وتفتح آفاق المشتغل بهذا العلم، فبقائي أمام الحاسب، حفزني لقراءة المكتبة الإلكترونية، كما أنه أتاح لي جمع أعمالي، وتدقيقها ثم نشرها.
- البيئة في السودان لاتساعد على كتابة العمل الروائي.
–بحكم عملك في الإمارات، هل ترى أن البيئة فيها كانت مساعدةً لك، ومحفزة للكتابة الإبداعية أكثر، أم أن البيئة في السودان كانت أكثر تأثيراً، وتحفيزاً لك؟
_ لم أكتب أياً من أعمالي الروائية داخل السودان؛ بل كتبت الشعر حين كنت طالباً، وذلك انفعالاً بما حولي من أحداث في حينها، ثم كتبت الرواية حين كنت في المهجر، سواء كان ذلك في الدول العربية أو الغربية، فالبيئة في السودان لا تساعد في كتابة العمل الروائي، غير أن وجودي في الإمارات، وفر لي بعض الوقت للكتابة؛ بحكم طبيعة عملي هناك.
- أكتب الرواية…وكتابتها تحتاج طقساً معيناً.
–هل لديك طقوس معينة في كتابة الرواية، أو الشعر؟
_ كثيراً ما أجلس على الأرض للكتابة. الكتابة عندي هي عمل، أنغمس فيه بكل مشاعري، فأغيب عن دنيا الناس، وعما حولي، ومن حولي. حين أكتب الرواية؛ فكأنما يملي علي طيف، فأكتب دون توقف. الرواية تكتمل في عقلي، وخاطري قبل أن أكتب حرفاً واحداً. اَحتشد لكتابة الرواية بالقراءة في المجال الذي أريد أن أكتب فيه، وربما أقرأ أشهراً طويلة، قبل أن أكتب حرفاً واحداً. مشروعي الروائي المعرفي، كأنه رواية واحدة طويلة، ممتدة عبر الزمان، فقد كتبت عن تاريخ قديم منذ ما قبل مجيء الإنسان إلى الأرض، وكتبت عن تاريخ الحياة على الأرض، وكتبت عن المستقبل. فهذا النوع من الكتابة؛ يتطلب طقساً معيناً، هو الخروج عن دنيا الناس، والدخول في عوالم الكتابة.
- الروائيون السودانيون مظلومون دولياً بشدة.
– ما الذي يميز الرواية السودانية عن نظيراتها في الدول العربية الأخرى؟ وهل نالت ما تستحقه من الحضور، والبروز في المحافل الخارجية؟
_ الرواية السودانية في معظمها، تكتب عن أماكن، وعادات، ومجهولة لدى القاريء العربي، وهذا النوع من الغموض يمنحها بعض التميز؛ الذي يوجد الرغبة لدى القاريء في متابعة القراءة، إضافة لندرة الروائيين السودانيين، وبذلك تأتي أعمالهم متفردة. الرواية السودانية ظلمت ظلماً مبيناً، وكذا الروائيون السودانيون لم يجدوا حظهم في المحافل الدولية، إلا أقل من القليل.
- مقومات الرواية المستحقة نيل الجوائز .
– برأيك متى تكون الرواية روايةً ناجحةً، ومميزة، ومستحقةً للمنافسة على الجوائز؟
الرواية الناجحة؛ هي التي تعالج موضوعاً هاماً في حياة القاريء، وتشد اهتمامه، وتجذب انتباهه، وتحفزه لمواصلة القراءة، وتحتوي على حكايات ممتعة عبر أبطال، ينجح الكاتب في تمييز هوياتهم، وشخوصهم، وتعريفهم، وتجسيدهم؛ وكأنهم حقيقيون، يعيشون مع القاريء في بيته، أو شارعه، أو مجتمعه المحلي، حتى لو كانوا شخصيات وهمية من صنع خيال الكاتب، وذلك من خلال الحوار، الحبكة، التشويق، الاستحواذ على الانتباه، الصراع، والعقدة ثم الحل. وكل ذلك بأسلوب جميل، سلس في السرد، ولغة رصينة. الرواية التي تستحق المنافسة على الجوائز؛ هي الرواية المكتوبة بأسلوب أدبي جميل، ولغة سامية عالية، وعبارات جذابة، ومعالجة فريدة، وموضوع جديد؛ ذي فائدة للقاريء.
- تلاقح الثقافات…بفضل الإنترنت.
– نرى في الآونة الأخيرة أن الرواية العربية، بات لها حضور قوي في معظم الجوائز الدولية الكبرى. إلامَ تعزو ذلك؟.
– انفتاح العالم العربي على العالم، وتلاقح الثقافات، وعصر التواصل، والاتصال من خلال الشبكة الدولية، والمعلومات الرقمية، قرّب المسافات بين الثقافات، والشعوب، فصار من الممكن للرواية العربية أن تنافس على الجوائز، وقبل ذلك أصبح الروائي العربي جزءاً من المجتمع الدولي، في حين لم يكن الأمر كذلك، ما قبل عصر الانترنت.
- القصة القصيرة تنافس الرواية.
–هل تعتقد أن الرواية ستظل محافظةً على صدارتها أمام الألوان الأدبية الأخرى، كالقصة، والشعر؟
_لكلٍّ ذائقته، فهناك رواد للقصة، وآخرون للشعر، لكني أعتقد أن القصة القصيرة، بدأت تنافس الرواية في الصّدارة، وذلك لأن شباب هذا اليوم، وقراء هذا العصر، لا يصبرون على قراءة الروايات الطويلة؛ فتشدهم القصة القصيرة، يقرأونها في محطات المواصلات، أو في الطريق إلى العمل، أو الدراسة. ثم إن القصة القصيرة تعالج موضوعات متعددة، ومتنوعة، وذلك يثير فضول القاريء في كل مرة؛ لاكتشاف أبطال جدد، وحكاية مختلفة، وذلك على العكس من الرواية؛ التي يمتد شخوصها عبر عشرات، أو مئات الصفحات.
*كتابة القصص القصيرة أصعب من كتابة الرواية، عكس مايعتقد الكثيرون.
–الانتقال من كتابة القصص إلى كتابة الرواية. أَقد يؤثر ذلك على جودة الرواية، وتميزها؟ وهل من السهل فعل ذلك؟
– في تقديري، إن كتابة القصص القصيرة أصعب من كتابة الرواية؛ فالرواية تتيح مجالاً أرحب، لانطلاق فكر، وقلم الكاتب، ليتمدد بخياله حيث يشاء، وكيفما يريد، بينما العدد المحدود من الكلمات؛ لكتابة القصة، وكذلك الشخوص، والمساحة الضيقة؛ تجعل كتابة القصص القصيرة مغامرة صعبة، لمن يجرب هذا النوع من الكتابة، ولذا ينجح فيه القليل، وذلك على العكس من الاتجاه الشائع لدى الناس، أن الأدباء ينبغي أن يبدأوا بكتابة القصة، أو القصة القصيرة، قبل أن يكتبوا الرواية.
- العبرة بالعمل الروائي، وليس بشخص الروائي.
– لو كنت سترشح روائياً عربياً، أو روائيةً، لنيل جائزةٍ عالميةٍ في كتابة الرواية، من كنت ستختار لترشحه؟
– العبرة هي في العمل الروائي، وليس في شخص الراوي! وبذلك، فلو كنت سأرشح، فسوف أرشح أعمالاً روائية عديدة، لعدد من الكتاب، وليس روائياً واحداً بعينه.
- كتابة الأنثى تختلف عن كتابة الذكر.
–هل ترى أن جنس الكاتب( ذكر، أو أنثى) ، قد يؤثر في قوة، وجمال، وأسلوب، وتميز الرواية؟ أم أنه لا فرق في ذلك؟
_ كتابة الإناث، تختلف عن كتابة الذكور، فالأنثى تهتم بالشخوص، بينما الذكور يهتمون بالتفاصيل، والأنثى تكتب كثيراً في المشاعر، بينما الرجل جوّاب، آفّاق، يكتب في كل شيء، والأنثى تلميحية، والرجل تصريحي مباشر…وهكذا. وذلك نابع من فطرة كل منهما، بينما تصقله المعرفة، ومستوى التعليم، والمجتمع المحيط، والمعرفة باللغة، وغير ذلك.
- انتظروا ( رؤيا عائشة، و نافذة في سماء الكهرمان) .
– ماهو مشروعك الأدبي القادم، هل يمكن أن تطلعنا عليه؟
_ أكتب روايتين إحداهما (رؤيا عائشة)؛ وهي عن الحياة الشخصية لمحمد احمد المهدي، برواية (عائشة) إحدى زوجاته، والرواية الأخرى هي (نافذة في سماء الكهرمان)، وهي فانتازيا علمية؛ تقوم على ما يطلق عليه فيزياء الكم، وتكتب عن الانتقال للعوالم الأخرى، الموازية، والسفر في الزمن إلى الماضي، أو المستقبل، وعن العالم بعد ألف عام من زماننا هذا.
- هذا الشخص أنصحه بعدم كتابة الرواية.
–هل لديك نصيحة تقدمها للروائيين الشباب، أو لمن يود اقتحام عالم الكتابة الروائية؟
– اللغة السليمة، هي أول ما ينبغي أن يبدأ به من يود الدخول في عالم الرواية؛ فهي الأداة؛ التي سوف يستخدمها، لنقل أفكاره للناس، وهي بمثابة الأداة الأساسية لأصحاب الحرف، فمن يخطيء في الإملاء، ويتعثر في اللغة، ولم يقرأ الأدب العربي، فلا أنصحه بالكتابة. إن كثرة القراءة في اللغة، والأدب؛ تفتح آفاقهم، وتمنحهم ملكة الكتابة، وأدواتها. فمن لا يملك ناصية الأداة؛ التي يعمل بها، كيف يمكنه أن يتقن عمله؟ هذا ما لا يستقيم.
*كلمة الختام.
– د.عمر لديك مساحة مفتوحة، لقول كلمة أخيرة توجهها لمن تشاء، فماذا ستقول؟
ختاماً أقول: إن كل إنسان يمتلك موهبة في مجال من المجالات، فالبعض منا يعرف ذلك، ويوظفه، وكثيرون لا يعرفون أين هو مكمن الإبداع عندهم، فليبدأ كل منا بمحاولة اكتشاف موهبته، ولا يستحي أن يجرب، فإن عالجت أمراً، ولم تستطعه، فاعلم أنه ليس مجالك وجاوزه إلى ما تستطيع، فسوف تكتشف موهبتك يوماً ما، وتبدع للناس فيها.
وفي نهاية حوارنا هذا، أتقدم بالشكر الجزيل لضيفنا الكريم، راجيةً له دوام التوفيق والإبداع.
رابط الحوار:
مشوار حياة المؤرخ والأديب السوداني دكتور عمر فضل الله
مشوار حياة د. عمر فضل الله
إعداد: منى حسن
- ذكريات النشأة والطفولة في قرية العيلفون الغافية على ضفاف النيل الأزرق، حاضنة خلاوي القرآن؟
لم أنتقل بمشاعري حتى اليوم عن كوني طفلاً فتح عينيه في بيت يفتح بابه على باب المسجد الكبير بالعيلفون فيرى المصلين وخلوة حفظ القرآن وطلبة العلم وحلقات الذكر والمادحين والنوبة والنحاس في الأعياد. العيلفون هي جنتي في الدنيا رغم أني طفت العالم ورأيت أجمل مدنه وأريافه. لا نيل في السودان إلا الذي يجري غرب العيلفون ولا رمل إلا رمله ولا حدائق إلا التي اختارت جواره. لم أسمع الأطيار تغني إلا هناك ولم أعرف معنى الجمال الحقيقي إلا في تلك الأرض ووجوه الناس. في العيلفون عرفت المعنى الحقيقي للتكافل وصلة الأرحام والتعاطف والتواد والتراحم والعلاقات الجميلة. في العيلفون عرفت متعة اللعب مع الأقران والسباحة في النيل. أجمل الذكريات التي بقيت معي حتى اليوم هي من ذكريات العيلفون وأظنها ستدخل معي القبر وسأستعيدها في جنة الخلد هناك حيث الحياة الحقيقية. أسأل الله أن تكون هناك عيلفون في الجنة بكل أهلها ومبانيها وشوارعها وأحداثها. - ذكريات مقاعد الدراسة وما تبقى من عطر أرواح الصداقات فيها؟
منذ السنة الأولى الابتدائية كنا نحفظ أسماء زملائنا وترتيب مقاعدهم في الفصل. وما زلنا نذكر الطرائف والتلائد بتفاصيلها. زملاء الأمس في جميع المراحل بقوا هم أصدقاء اليوم. وذكريات مقاعد الدراسة بقيت هي أجمل الذكريات. ورغم أنه فرقتنا الأيام والأحداث لكن ما يحمله بعضنا لزملائه منذ ذلك الوقت من ود جميل وشعور نبيل لا نكنه لغيرهم. ثم لما دارت الأيام واستحدث العالم التقانات عدت أبحث عما انقطع من حبل تلك الصداقات لأجدده وأتاحت لي وسائل التواصل الاجتماعي تجديد زمان الوصل فأنشأت المجموعات لزملاء الإبتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة أحيي فيها تلك الذكريات وأنشد معهم أناشيد الطفولة والبراءة وحتى نشيد الوداع الذي كنا نردده في نهاية كل مرحلة من المراحل ونحن نعلم أنه ليس وداعاً لكنه انتقال من مرحلة لأخرى لكنا كنا ننشده من أجل دمعة الوداع المؤقت وهو نشيد قديم طالما تغنى به التلاميذ وقد كتبه الشاعر الأسكتلندي روبرت بيرنز (1759 – 1796م) وترجمه إلى العربية الأستاذ أحمد محمد سعد ببخت الرضا عام 1951م
هل ننسى أياماً مضت هل ننسى ذكراها
هل ننسى أياما مضت مرحاً قضيناها
من أجل أيام مضت من أجل ذكراها
فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها
كم قد رتعنا في الربى فرحاً بمثواها
كم قد قطفنا من زهور من ثناياها
كم قد مشيناها خطى كم قد مشيناها
فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها
كم قد سبحنا في الغدير معا صباح مساء
واليوم يفصل بيننا بحر أمواجه هوجاء
من أجل أيام مضت من أجل ذكراها
فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها
هذي يدي يا صاحبي قدم إلي يدا
ولنخلصن نياتنا ولنصدق الوعدا
من أجل أيام مضت من أجل ذكراها
فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها
كم قد مرحنا كم طربنا إذ طويناها
أيام أنس زاهيات كيف ننساها
من أجل أيام مضت من أجل ذكراها
فلنرفعن علم الوفا من أجل ذكراها
والنص الإنجليزي يقول:
Should old acquaintance be forgot, and never brought to mind?
Should old acquaintance be forgot, and old lang syne?
For auld lang syne, my dear, for auld lang syne
We’ll take a cup of kindness yet, for auld lang syne.
And surely you’ll buy your pint cup ! and surely I’ll buy mine !
And we’ll take a cup o’ kindness yet, for auld lang syne.
We two have run about the slopes and picked the daisies fine;
But we’ve wandered many a weary foot, since auld lang syne.
We two have paddled in the stream, from morning sun till dine;
But seas between us broad have roared since auld lang syne.
And there’s a hand my trusty friend! And give us a hand o’ thine!
And we’ll take a right good-will draught, for auld lang syne.
- مرحلة الدراسة الجامعية بدءا من السودان، انتقالا إلى السعودية، وما صاحبها من أصدقاء وأحداث؟
شهدت جامعة الخرطوم سنوات من العصف والتوتر وعدم الاستقرار في سبعينيات القرن الماضي. كان هناك ما يشبه الحرب بين النظام القائم آنذاك والطلاب تمثل فيما شهدناه من الوجود المستمر لقوات الجيش والأمن والشرطة في باحات الجامعة وداخليات الطلاب وامتلأت السجون والمعتقلات بطلاب الجامعات والمدارس الثانوية. جامعة الخرطوم كانت تعج بالنشاط السياسي والثقافي بالرغم من هذا كله فمقهى النشاط والصحف الحائطية لم تتوقف ولكن الدراسة لم تكن مستقرة وفقد الجامعة ألقها القديم في تلك السنوات. صديقي في تلك الأيام كان هو المرحوم محمد بن المرحوم الزعيم إسماعيل الأزهري فقد كان زميلي في كلية الإقتصاد، وقد تركت تلك السنة اليتيمة بصمات في خاطري وذاكرتي لا تزول. المحاضرون كانوا متميزين. درسنا الرياضيات على البريطانية مسز بابكر واللغة الإنجليزية على مسز هاشم زوجة محمد هاشم عوض وكنت أحضر دروس اللغة الفرنسية بعد العصر مع مسيو باتريس ماريه وحلقات الثقافة والأدب مع الأستاذ الشاعر محمد الواثق وغيرهم من العمالقة. وفي تلك الأيام التقيت بالأستاذ الدكتور عبد الله الطيب لأول مرة.
وحين غادرت السودان إلى السعودية أمضيت فترة برفقة زميلي عصام احمد البشير فتتلمذنا على الشيخ الألباني في المدينة المنورة وكنا نشهد حلقات الشيخ أبي بكر جابر الجزائري في المسجد النبوي وحلقات الشيخ الكتاني المغربي وغيرهم من العلماء وكان ذلك كله قبل الحصول على المنحة الدراسية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. - كيف تصف البيئة الجامعية في المملكة العربية السعودية آنذاك؟
مليئة بالأحداث الجميلة والذكريات الحلوة. كانت هناك مجموعة من المحاضرين السودانيين أذكر منهم على سبيل المثال: الأستاذ الدكتور محمد طالب الله والأستاذ الدكتور عبد الرحمن محمد سعيد والدكتور يوسف نور عوض والدكتور زكريا بشير إمام وغيرهم بالإضافة إلى عدد كبير من الطلاب السودانيين وخاصة من أبناء العيلفون. وأتاحت لنا الدراسة في جامعة الملك عبد العزيز عقد الصداقات مع طلاب من مختلف الدول العربية وبقية دول العالم.
كنا ونحن طلبة نتلقى المنح والمكافآت الشهرية التي تكفينا للأكل والشرب والترحيل ومصاريف الدراسة وكانت الجامعة توفر السكن مجاناً. وكنا نسكن معاً في مجتمع جميل أو نخالط الجنسيات الأخرى من السعودية والشام واليمن أو من الأقليات القادمة من البعيد جداً من جمايكا أو البرازيل وغيرهم من الطلاب المسلمين.
مجتمع الداخليات كان مجتمعاً جميلاً وكان الطلاب يتشاركون ما يعرف بالميز لصنع الطعام وحين انتقلنا إلى الداخليات التي تقع على شارع الجامعة المشهور بمحلات بيع الفول والطعمية وغيرها نشأ الأدب المصاحب لهذه المحلات حيث كنا نشتري الرغيف والفول من الباعة وذلك مرتين صباحاً ومساء فاكتسبنا الخبرات في هذا المجال ومما أذكره من الأراجيز التي كتبتها حول هذا الأمر عن الخبز وأنواعه:
إن (التَّمِيسَ) سيد الرغيف ** اللين المنعنش الظريف
لا ترض صاح للتميس من بدل *** فهو طعام سائغ لمن أكل
و(عيش لبنان) به مشاكل *** مضمونة غازاته للآكل
فهي إذا جاءتك عند النوم *** فرعدها يصم سمع القوم
إياك أن تشتري (الصامولي) *** لأنه يضيع طعم الفول
وإن غلطت واشتريت (الشامي) *** فقد أضعت لذة الطعام
الجامعة كانت تعج بالنشاط الثقافي والأكاديمي والاجتماعي والرحلات الجامعية وكانت تضم مكتبات غنية وثرة أضافت الكثير لحصيلتي المعرفية. كنا نذهب في نهاية الأسبوع لأداء العمرة أو نصلي الجمعة في الحرم المكي ونلتقي بطلبة جامعة أم القرى من السودانيين الذين جاء معظمهم من جامعة أم درمان الإسلامية لدراسة الماجستير في العلوم الإسلامية وفي موسم الحج كنا ننظم المجموعات من الطلاب المتطوعين لخدمة الحجاج السودانيين وتقديم العون والإرشاد لهم وكان ذلك العمل يتم عبر تنظيم طلابي اسمه (الجوالة).
وكان الأستاذ محمد حجاز مدثر يرحمه الله هو الملحق الثقافي والأكاديمي بسفارة السودان بجدة وكان بيته مقابلاً لداخليات وسكن الطلاب بحي النزلة إلا أنه لم يكن يزور الطلاب ليتعرف على مشكلاتهم واحتياجاتهم فكنا نراه في مركبته الفارهة يخرج من منزله فيتجه صوب السفارة صباحاً أو يعود إلى بيته مساء. لكن علاقته بالطلاب كانت ضعيفة فطلب مني زملائي أن أكتب إليه رسالة عتاب فلم أجد أرق ولا ألطف من الشعر فكتبت أبياتاً على سبيل المداعبة أذكر منها:
يا بن حجاز إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع
ملحق قد جاء في موكبه فشربنا الشاي في مكتبه
راح منقولاً ولم نسمع به
غير أنا لم ننل من مركبه
غير هبات الغبار الألمعي
شكت الأقدام من طول الحفا
لم نجد في وصفه من عرفا
فهو قد سار بعيداً وكفى
هل ترى في هجره قد أنصفا
أم هو إهمال وبعض الوجع
وبالرغم من أنها كانت أبياتاً في المداعبة إلا أنها وجدت أذنا صاغية من المرحوم محمد حجاز عليه الرحمة. أوحت لنا تلك الأيام بالكثير وقد سطرت بعضها قصائد أو أهازيج ضاعت مع الأيام لكني أذكر منها في البكاء عليها:
كيف كنا في أمسنا كيف كنا؟ كيف كانت أرواحنا في تسامي
كيف عشنا رغم الحياة خلوداً هو في واقع الأمر في بعض عام
لست أدري في وقتها كان شيئاً فاق دنيا الحساب والأرقام
(مسجد الزيني) في النزلة يشهد أنا قد عمرناه في صلاة القيام
والتقينا في ساحة الحرم المكي جموعاً تتلو لخير الكلام
تلك ذكرى والذكريات شفاء حين عز اللقاء فالقلب دام
هل ترى تذكر النزلة لما عمر (الميز) وقتها بالكرام
نحتسي الشاي مرة ثم أخرى ريثما يتم طهي الطعام
والحديث العذب يسري رويداً في جميع العلوم كالإلهام
في السياسة في الدين في الآداب في القانون والأحكام
في العلوم في الفقه والفكر في التاريخ في (الإعلام)
ياترى هل تعود تلك الليالي؟ رب رمية للقاء من غير رام
قد حوى ذلك الزمان إخاء عز فوق الأنساب والأرحام
5. مرحلة الدراسات العليا في أمريكا، ومحصلتها من المعارف والأصدقاء؟
أعتبر هذه المرحلة نقطة تحول في حياتي العلمية والعملية ففي الولايات المتحدة إما أن تجتهد فتنجح أو تفرط فتفشل ولا توجد منطقة وسطى. كنت أقضي ما بين ثمانية عشر ساعة وعشرين في الدروس أو المعامل ولا أعود إلا لأنام لأستيقظ صباح اليوم التالي وهكذا. وبالرغم من أنني كنت على منحة إلا أنني كنت أعمل في العطلات لتوفير المزيد من النقود. تجنبت مصاحبة السودانيين لأني تعلمت من حياتي في المملكة العربية السعودية أن حياتهم الاجتماعية مفرطة وأنها تضيع وقتي. لكني بالرغم من ذلك تمكنت من مصاحبة الكل حتى المشردين في الشوارع وفرق العصابات لأتعلم منهم ثقافة تلك الطبقة من الشعب الأمريكي وتعلمت منهم اللهجة الأمريكية American Slang فكنت أجلس مع من يطلق عليهم Street Corner Community الذين يجلسون في ركن الشارع ثم كتبت عنهم بعد ذلك رواية باللغة الإنجليزية لم تنشر بعد واسمها The Devil in me الشيطان الذي بداخلي. اكتسبت كثيراً من الأصدقاء من البيض ومن الملونين وخاصة من جمايكا والمكسيك. وتمكنا من تأسيس مصلى في الجامعة تحول بعدها إلى مسجد كبير يؤمه الطلاب. كنت أشهد جمعيات برمجيات الحاسب الآلي وخاصة جمعيات تبادل البرمجيات Software المجانية مثل مجموعات الاهتمامات الخاصة بنظام أبل Apple SIG ومؤتمرات تقنية المعلومات والمناشط العلمية وقد شهد ذلك الزمان انفجار تقانات المعلومات وبرمجياتها وتتوج بظهور الانترنت في آخر أيامنا بالولايات المتحدة.
6. أهم الروافد التي أسهمت في التشكل المعرفي لديك كشاعر وروائي؟
فيما يتعلق بالشعر فقد أسهم إخواني الكبار وأساتذتي في حفز ملكة الشعر عندي ثم قراءاتي الكثيرة وسهولة الحصول على دواوين الأدب والشعر فقد قرأت أعمدة الأدب الأربعة البيان والتبيين للجاحظ والأمالي لأبي علي القالي وأدب الكاتب لابن قتيبة والكامل في اللغة والأدب للمبرد ثم العقد الفريد لابن عبد ربه وغيرها من كتب الأدب إضافة إلى المعلقات ودواوين الشعر الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي والحديث. وتحدي الشعر منذ المتوسطة مما أوجد عندي ملكة للشعر.
وأما الرواية فقد جاءت متأخرة رغم أنها كانت عندي في محاضن حكايات الجدات قبل النوم والأحاجي والقصص الشعبية ثم غذتها القراءة والإطلاع وموسوعية المعرفة فأنا أقرأ في كل شيء تقريباً ولا أتهيب القراءة وقد قرأت الكثير في الأدب العربي والعالمي.
7. حققت نجاحات كبيرة في مجال عملك في الحاسوب والاتصالات، إلى جانب نجاحك الأدبي المتوج بالإنجازات المشرفة والجوائز والتكريمات، فكيف تصالح الأديب مع المهندس بداخلك؟
تعدد المواهب والمجالات أمر غريب في زماننا هذا وهو ليس كذلك عند من سبقونا فكثير من الفقهاء والعلماء تجدينهم قد برعوا في أفرع العلم المختلفة فبالإضافة إلى اللغة والفقه وعلوم القرآن والحديث تجدينهم قد برعوا في الطب والرياضيات والفيزياء وعلوم الفلك وغيرها والأمثلة كثيرة حتى إنك لتعجبين من أين لهم كل هذا الوقت للاطلاع على هذه العلوم والمعارف. وإذا كان ذلك في الزمان القديم فمن باب أولى زماننا هذا الذي أصبحت فيه العلوم والمعارف في متناول الأيدي لكن فترت الهمم ولو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها. وأما فيما يخصني فقد وجدت عندي الملكة لأنهل من مختلف العلوم وأظن أن السر وراء هذا هو حفظ القرآن الذي يفتح آفاق الطفل وينمي عنده القدرة على الفهم والاستيعاب ويزيد ذخيرته اللغوية فاللغة هي أداة المعارف والعلوم ومفتاح التحصيل. وأما عني فقد وجدت نفسي في جميع هذه المجالات إضافة إلى مجالات أخرى لم يسعني الوقت لأفصح عنها وربما أفعل في مقبل الأيام.
8. حدثنا عن تجربتك في تأسيس مركز الدراسات الاستراتيجية والمركز القومي للمعلومات بالسودان، كيف كانت تجربتك، وإلى أين وصلت، وما الذي واجهك من معوقات؟
كنا ثلاثة أشخاص أسسنا المركز لما لمسناه من حاجة البلاد للتخطيط الاستراتيجي والرؤية الواضحة والغاية، فبادر الفريق متقاعد السر محمد احمد والدكتور سيف الدين محمد احمد وشخصي عمر احمد بتأسيس المركز الذي نجح خلال سنوات عمره القصيرة في عمل استطلاعات الرأي (حول تطبيق الشريعة الإسلامية – وحرب الخليج وغيرها من الاستطلاعات) كما أقام الدراسات الكثيرة للمشاريع القومية في البلاد وأجرى بالتنسيق مع مركز الإحصاء تعداد السكان الثاني عام 1992 ثم الاستراتيجية القومية الشاملة والتي ضمت في عضويتها ستة آلاف خبير سوداني كما أن المركز قام بإنشاء المركز القومي للمعلومات للتخطيط للبنية التحتية للمعلومات في السودان وإنشاء شبكات المعلومات وميكنة الدولة وغير ذلك الكثير من المنجزات غير أن مؤتمر الشبكة القومية للمعلومات تمت مصادرته وإيقافه صبيحة انعقاده وذلك دون إبداء الأسباب حتى اليوم، غير أن ذلك الزمان شهد صراعات مراكز القوى في البلاد والتي قام بعضها بمصادرة المركز القومي للمعلومات مثلما صادر من بعد ذلك مركز الدراسات ووأد الكثير من المشروعات القومية مثل مشروع الرقم الوطني الموحد ومشروع القمر الصناعي السوداني ومشاريع لو تركت لتبدلت حال البلاد. ومن مشكلاتنا الكبيرة في البلاد أنهم لا يدعمون النجاح والناجحين ما لم تكن منتمياً لحزب سياسي أو توجه آيديولوجي أو مركز من مراكز القوى في البلاد.
9. ساهمت في إنشاء المكتبة الوطنية السودانية، حدثنا عن المشروع ومدى أهميته، وأين وصل الآن؟
صاحبت مشروع المكتبة الوطنية السودانية منذ أن كان فكرة ثم دراسة في يد المرحوم البروفيسور أحمد عبد الرحمن العاقب ثم بعد وفاته في يد المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب والوزير صديق المجتبى الكتيابي أطال الله عمره. وأذكر أنني في تلك الأيام ذهبت للمرحوم الزبير محمد صالح للتصديق لنا بقطعة أرض في وسط الخرطوم لإنشاء مباني وقاعات المكتبة لكن الدكتور عبد الله الطيب نصحني ألا أطلب قطعة أرض في الخرطوم فذلك أمر بعيد المنال وقال لي قل للواء الزبير نريد أن ننشيء المكتبة تحت الأرض في ميدان الأمم المتحدة آنذاك ولا نريد قطعة فوق الأرض وبالفعل وجه اللواء الزبير مدير مكتبه بذلك لكن المفاجأة كانت أنني حين ذهبت بعد بضعة أيام إلى ذلك المكان وجدته قد تم تسويره وانتشرت القوات المسلحة حوله ووضعوا لافتة اسمها (مكتبة القبة الخضراء) فعلمت أنها مكتبة (ضرار) وبالفعل أنشأوا مكتبة من طابقين لبضعة أشهر ثم هدموها وكان القصد منها أن يحال بيني وبين إنشاء المكتبة الوطنية السودانية وكان المسئول عن مشروع القبة الخضراء هو العميد يوسف عبد الفتاح. ولو طال بي عمر فسأكتب عن كيف قاموا بتحوير أهداف المكتبة الوطنية لتصبح مسخاً شائهاً بعد أن كانت مشروعاً قومياً يضطلع بمهام الثقافة والنشاط الفكري والتراثي وغيره في البلاد عن طريق المراكز الكبيرة التي تنشئها المكتبة الوطنية مثل مركز الفهارس والضبط الببليوجرافي ومكتبات الولايات ودور الوثائق الوطنية ومركز المصنفات الأدبية ومراكز النشاط الفني وقاعات المحاضرات والسينما والمسرح وغيرها.
10. عملت مستشارا بالحكومة الإلكترونية بأبوظبي، كيف كانت التجربة، وما أهم مقومات نجاح مشاريع الحكومات الإلكترونية؟
كانت تجربة ثرة وغنية لأنه تسنى لي مواكبة إنشاء مشاريع معلوماتية ضخمة لم يسبق إنشاؤها في الوطن العربي من قبل وباستخدام تقانات متقدمة حيث بدأنا بميكنة أعمال مؤسسات الدولة ودوائرها الحكومية مثل دائرة الأشغال ودائرة البلديات والزراعة ودائرة المالية وغيرها ويشمل ذلك مراكز البيانات وشبكات المعلومات والاتصالات ثم أنشأنا بوابات الحكومة الإلكترونية في جميع الدوائر وامتد ذلك لخدمات الموانيء والمطارات والمرافق الحكومية الأخرى وانتهاء بالربط الكامل للخدمات مع المواطنين وربط كل ذلك بالهوية الموحدة ثم ارتقى الحال إلى الحكومة الذكية عبر الهواتف الجوالة حيث أصبحت جميع الخدمات سهلة وميسرة.
لكى تقيم مشاريع حكومة الكترونية ناجحة لا بد من هيكلة الأعمال والوظائف يدوياً وإنجاز إجراءات سير العمل فالنظام اليدوي المثالي يمكنك من إنجاز ميكنة مثالية وبعد ذلك يتم الانتقال لميكنة الأعمال عن طريق بناء البنية التحتية للاتصالات والشبكات ومراكز البيانات والأجهزة والأنظمة والتطبيقات ويتم التعاقد مع الشركات المتخصصة لتنفيذ هذه المشاريع وفق خطوات واثقة وثابتة مع آلية لنقل المعرفة وتوطينها وحماية وحراسة كل ذلك بالقوانين والأنظمة التي تضمن نجاح واستمرارية وحماية هذا العمل بالإضافة إلى تدريب الكفاءات من أجل إدارة وإنجاح وتطوير هذه الأنظمة علماً أن الحكومات الإلكترونية الناجحة هي التي تهتم بالمواطن وتكون في خدمته وتيسر له سبل العيش الكريم.
وقد تمكنت خلال هذه الفترة من إقامة عشرات المشاريع الكبيرة الناجحة وهو ما لم أتمكن من إقامته في بلدي!
11. كيف يساهم “الاستعمال الابداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في القبول بالتنوّع الثقافي والإقرار به في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات” وتعزيز مفهوم الاستثمار الثقافي؟
أفلحت التقانات الحديثة في ربط شعوب العالم فترجمت الآية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) إلى واقع الهدف من التنوع العرقي واللوني والديني ليتسنى تلاقح الثقافات المتنوعة في العالم كماً وكيفاً وتقريب الشقة الناتجة عن رفض الآخر نتيجة الجهل فالناس أعداء لما جهلوا لكن تقنية الشبكة الدولية الانترنت والقنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإبداع الإعلامي إضافة إلى تقانات الاتصالات قد أفلحت في توفير بيئة للتواصل الثقافي والحضاري وفي ظني أن العالم لم يبلغ في تاريخه ما بلغه في هذا الزمان من تيسير السفر والانتقال والتواصل فالشبكة الدولية على سبيل المثال قد وفرت بيئة التواصل بجميع لغات العالم عبر النصوص والصوت والصورة والمؤثرات وغيرها وبذلك تسنى تيسير المعرفة التي كانت في القديم محصورة في دور العلم أو عند القليل من العلماء المجتهدين الذين يشد إليهم الرحال فقد انفتحت أمام العالم اليوم المجالات المختلفة مثل الجامعات الافتراضية والمكتبات والمواقع المعرفية بالإضافة إلى مجالات الإبداع الثقافي والإعلامي الآخر مثل الأفلام السينمائية والمسلسلات والبرامج الحوارية والأنشطة الفكرية والثقافية والتي فتحت الباب أمام تيسير الاستثمار الثقافي بأنواعه المادية والتنموية والمعنوية فنشأت الأجيال الحديثة لتواجه آفاق التنوع المعرفي وعلى الدول والحكومات استغلال هذا في تطوير التعليم وتربية الأجيال وغيرها من المجالات.
12. برأيك ما مدى أهمية دمج الثقافة في برامج وسياسات التنمية المستدامة؟
الثقافة هي وجه الحضارة المشرق وأسلوبه المعبر عنه فالتنمية العمرانية على سبيل المثال تكون مسخاً لا يعبر عن هوية المكان دون أن تطبع ببصمات ثقافته، وذلك مشاهد منذ قديم الزمان في فن المعمار على مدار العصور وحين نتحدث عن تنمية مستدامة في أي مكان فإن الثقافة هي أحد أركان هذه التنمية كعجلة تدفعها وتحميها وتقوم مسارها وتحدو ركبها وبدونها تفقد التنمية هويتها ومعناها، ولهذا فالثقافة كانت وما زالت هي محط الاهتمام عند صناع الحضارات مهما تنوعت واختلفت أشكالها على مدار العصور والأزمان فلكل عصر ثقافته لكن المبدأ واحد.
13. كيف تقيم أهمية الأدب بكل فروعه كقوة ناعمة، وهل حققت المرجو منها في عالمنا العربي؟
في القديم كان الشاعر هو سفير القبيلة والمتحدث باسمها يمدح هذه فيرفعها ويهجو تلك فيضعها وكانت للشاعر سطوة ولكلماته حظوة ثم بدأ نجمه يخبو كسفير وانزوى في ركن من أركان الأدب في حين ظهرت مجالات أخرى لتتصدر المشهد الأدبي والثقافي وتسود في التأثير على غيرها لكن تبقى مجالات الأدب مؤثرة في السياسة والحكم وفي الحرب والسلم وغير ذلك، ويختلف تأثيرها باختلاف المكان والشعوب غير أن أشكال الأدب المؤثر في هذا الزمان في عالمنا العربي أصبحت تأخذ منحى المقالة الإعلامية والرواية الأدبية وفي ظني أن الأدب كقوة ناعمة لم تعد له مثل تلك المكانة القديمة فنحن نعيش أزمة الفكر والأدب في هذا الزمان في ظل سيادة السياسة الهوجاء والقوة الرعناء وربما نشهد عند الأجيال القادمة تغيراً في الأدوار ليتسنم الأدب مكانته الطبيعية كقوة مؤثرة.
14. ماذا بعد وداعك أبوظبي؟ هل تفكر في العودة للسودان، أم أن لك محطة أخرى؟
لم أغب عن السودان في أي وقت من الأوقات رغم أني أمضيت في الغربة من عمري بأكثر مما أمضيته في السودان. ولهذا فالتفكير في العودة إلى بلاد لم أغادرها بوجداني وفكري وأحياناً بجسدي أمر غير منطقي عندي علماً بأني الآن أقيم في الولايات المتحدة لأبني للسودان مجداً حيث أعمل على تنفيذ مشروع ضخم يتمثل في ولوج مجالات السينما وإدخال الشباب السوداني مجال السينما العالمية بقوة ولو نجح هذا المشروع فهو يضمن لي أن يعلن عن السودان للعالم عبر الوسيلة التي يشاهدها العالم أجمعه وهي السينما والصور المتحركة.
15. أهم مشاريعك الأدبية والعلمية القادمة؟
الأديب لا يتوقف عن الإنتاج الفكري طول عمره فكلما ظن أن هذه خاتمة المطاف تنفتح أمامه آفاق جديدة وتظهر تحديات والعمر قصير لكني أعمل الآن على كتابة تاريخ السودان لتسليط الأضواء على فترات غفل عنها الناس وظلمها المؤرخون فأكتب الرواية المعرفية التي تطرح أسئلة في التاريخ تحفز الأجيال الحالية على القراءة والعودة للاعتبار من تاريخهم وفي الوقت نفسه أكتب للمستقبل عن طريق تأليف الروايات الخيالية عن السفر في المستقبل لكنه ليس سفراً من أجل العبث وإنما لاستكشاف مآلات بلادنا في المستقبل بهدف تصحيح مسار الأجيال والتنبؤ بالمستقبل والاستعداد له كما أكتب بالإضافة إلى هذا في مجالات أخرى مثل كتابة السيناريو للسينما والتلفاز فمن الكتابات التي أقوم بها : رؤيا عائشة ونافذة في سماء الكهرمان والحيتان لا تطير إلا في سماء برمودا وغير ذلك من مؤلفات.
http://sites.alriyadh.com/alyamamah/article/1164852?fbclid=IwAR0KK8QUGbQT5P3L5U9NMfxzx8KJHoZv5ujfMPio5mKtFvgN0u0wryT-OV0
عمر فضل الله: أملك مشروعاً روائياً معرفياً ذا علاقة بتاريخ السودان أريد أن أقدمه للناس
الفائز بجائزة الطيب صالح العالمية يرى أن فوزه يعني نجاح مشروعه الروائي المعرفي الذي يقدمه للقراء ويؤكد أنه يسير على الطريق الصحيح.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: محمد الحمامصي
جمع د. عمر فضل الله بين العلم والبحث العلمي والإبداع، فهو متخصص في تقنية المعلومات وعلوم الحاسوب، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتور في علوم الحاسب الآلي تخصص نظم معلومات من جامعة كاليفورنيا، وتولى إدارة العديد من المشروعات الخاصة بتقنية المعلومات في دولة الإمارات حيث يقيم منذ سنوات طويلة وتولى الإشراف على مشاريع أنظمة البنى التحتية لشبكات المعلومات للدوائر وشبكات المنشئات الحكومية بأبوظبي، كما أسس الكثير من المراكز البحثية والاستراتيجية في السودان، وعلى مستوى الإبداع جمع بين الشعر والسرد والدراسة المعرفية والاسلامية وتحقيق التراث، وتزدحم مسيرتيه العلمية والإبداعية بالانجازات، نالت روايته “تشريقة المغربي” أخيرا جائزة الطيب صالح للرواية، وفي هذا الحوار معه نتعرف على مسيرتيه العلمية والإبداعية ونلقي الضوء على جوانب مهمة في شخصيته.
البداية كانت مع فوز روايته “تشريقة المغربي” بجائزة الطيب صالح للرواية، حيث أكد فضل الله أن جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي أصبحت تظاهرة ثقافية وعيداً ينتظره الناس كل عام للمرة الثامنة على التوالي في احتفائهم بعبقري الرواية العربية ذاك الذي صنفت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” ضمن أعظم مائة رواية في القرن العشرين.
وقد وجدت الجائزة صدى كبيراً وتقدمت بخطوات عظيمة إلى الأمام فأصبحت ضمن أعظم الجوائز العربية في الأدب. أما الفوز بالجائزة فهو حلم لكل أديب أو كاتب وروائي، لكن الفوز بالنسبة لي يعني أكثر من مجرد تحقق حلم ففوز أحد أعمالي بالجائزة، يعني نجاح مشروعي الروائي المعرفي الذي أقدمه للقراء ويؤكد لي أنني أسير على الطريق الصحيح.
ورأى فضل الله أن إنتماءه إلى بيت علم وقرآن وفقه كان هو اللبنة الأولى التي فتحت عقله ومداركه على اللغة والثقافة، وقال “أدركت منذ صغري بقية أجيال العظماء من الأدباء والمفكرين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فتتلمذت على البعض منهم، وقرأت أعمال البعض الآخر، وجمعت بين الآداب والثقافات العربية الإسلامية والغربية، فمنذ صغري حفظت القرآن وتعلمت الفقه وقرأت الشعر واللغة والعروض والنحو وقرأت الروايات والقصص والأدب العربي الحديث، ومن جهة أخرى قرأت في الآداب الغربية واللغات وغيرها، ثم صقلت هذا بالدراسة الأكاديمية في الجامعات والنشاط الثقافي والأدبي فيها”.
وأوضح فضل الله أنه نظم الشعر في صغره مثله في ذلك مثل بقية أهل السودان “النظم عند السودانيين هو هين مثل الكلام، ولذلك فلا عجب أن الكلمة المرادفة للفظ (تكلم) هي (انظم) وينطقونها (انضم) بالسودانية، وقد سبق الشعر الرواية عندي لأنني قرأت الشعر الفصيح منذ الصغر، فانفتحت قريحتي عليه فنظمته وأنا تلميذ في المتوسطة لم يطر شاربي ولم أبلغ الحلم حينها. لكنني لم أكتب الرواية إلا منذ بضع سنوات بعد أن بلغت الخمسين، ففي ظني أن الشعر لم تعد له تلك المكانة القديمة، فهذا عهد الرواية ولذلك خاطبت الشباب بما يحبون، وحيث إنني أمتلك القدرة على قراءة التاريخ قراءة جديدة، فقد كتبت لهم الرواية المعرفية التي تلعب في ميدان التاريخ”.
وحول استلهامه للتاريخ ووقائعه نصيب الحقيقة والمتخيل في تلك الأعمال، قال فضل الله “معلوم أن التخييل هو كل تاريخ يُبنى على وقائع في عقل المؤلف أكثر منه على وقائع حقيقية، وأن الشخوص التي يستحدثها المؤلف هي مجرد شخصيات خيالية أيضاً، بيد أن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما هو في أعمالي وخاصة الرواية الفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية “تشريقة المغربي” فقد أسستها على وقائع تاريخية مؤكدة، أستغل فيها فراغات التاريخ وفجواته فأُدخل فيها شخصيات وأحداثا مستوحاة من خيال المؤلف.
وإذا كانت بعض الأحداث أو الشخصيات متخيّلة، فلا ينبغي بالقدر ذاته أن تكون غير حقيقية فعنصر التخييل في رواياتي يسير جنباً إلى جنب في نسيجه السردي وسداه مع الحقيقة التاريخية. ومع أنه يقودنا عبر التخييل في عرض مادته الحكائية، لكنه لا يمنح الخيال الهيمنة الكاملة بل يجعل من الخيال مجرد عنصر مساعد لتمكين الحقائق التاريخية في ذهن القاريء عبر السرد وله القدرة على مزج التخييل التاريخي، والعجائبي والذاتي مع الحقيقة التاريخية في نسيج متميز ينتج لنا الرواية المعرفية”.
وأضاف فضل الله “على الرغم من الجدل الذي يدور حول المصطلح نفسه (الرواية التاريخية)، فما أكتبه أنا هو روايات وأعمال ذات علاقة بالتاريخ وليست روايات تاريخية وهي أعمال لها علاقة بالخيال وليست معنية بالحقائق بنفس القدر، وبالتالي فهي تحرك المكان والأشخاص والزمن بصورة مُتَصَوَّرَة وليس صورة واقعية. وتمتاز بأن اللغة والكتابة تضفي ثراء يكسبه الكاتب للشخصيات.
وبناء الرواية لا علاقة له بالأحداث التاريخية لكن فيه (رائحة) للأحداث التاريخية! ولذلك فالرواية ذات العلاقة بالتاريخ لا تُحَاكَم تاريخياً بل تُحَاكَمْ أدبياً إلا إن خالفت ما عرفه الناس من الحقائق، فرواياتي ذات علاقة بالتاريخ رغم كونها روايات ليست واقعية بالطبع وليس بالضرورة أن تكون واقعية، فالتاريخ واقعي ومرتبط بالواقع تحديداً ويُحَاكم إذا فارق الواقع لكن الرواية ليست واقعاً بل هي واقع افتراضي، وأنا أمزج الحقائق التاريخية بالأدب وأتخذ من التاريخ ميداناً للحركة، وأحرك شخوصي وأنطقها وأكسبها روائح التاريخ فالرواية تكون هكذا. تكسب المكان رائحة وتكسبه صوتاً وتكسبه موسيقى، وعمر فضل الله يكسبها كل هذا من خياله وليس من التاريخ ولكني ألعب في داخل ميدان التاريخ، لعباً خاصاً بقدراتي على الخيال وبقدراتي على إكساب هذه الشخصيات الحركة والنطق وغير ذلك.
وتساءل عمر فضل الله أما لماذا أكتب في ميدان التاريخ؟ وقال “لأن عندي مشروعاً روائياً معرفياً ذا علاقة بتاريخ السودان أريد أن أقدمه للناس أطرح فيه من خلال رواياتي أسئلة حائرة تثيرها الأحداث التاريخية المتعاقبة على تاريخ السودان وأطرق بقوة على فجوات التاريخ الغائبة أو المغيبة فأنا لا أهرب إلى التاريخ بل أجعل التاريخ فكرة حاضرة في عقول القراء بتحريك التاريخ وتقديمه للقاريء ليس باعتباره تجربة ماضية منقطعة، بل باعتباره فكرة دائمة التدفق شاخصة في الزمان وشاهدة على أحداثه من خلال الرواية المعرفية”.
ولفت فضل الله إلى أنه يحتشد للرواية المعرفية فيقرأ كل ما كتب عن الفترة الزمنية التي ينوي اللعب في مضمارها و”لهذا فحين أكتب تكون كل دقائق تلك الفترة الزمنية متدفقة من اللاوعي عندي ومن حنايا الذاكرة لتجري مع الحبر منسكبة في القلم الذي أكتب به الرواية. أنا أقدم روايات معرفية أوظف فيها التاريخ والأسطورة في إطار النسق المعرفي الكامن في المقولات الشعبية وحكايات التاريخ الشفاهي لأعود بها من كونها مجرد حكايات للتسلية والمتعة إلى كونها حكايات تؤيد التاريخ المحكي وتضيف للأدب، وذلك من أجل إعادة تشكيل هوية معاصرة في زمن متحول ونقلها من خانة التصورات التاريخية الظرفية، إلى خانة الحكايات ذات الأصول التاريخية التي تقبل الدراسة والتمحيص وتتسق مع حقائق التاريخ. ففي حين يتجنب الروائيون الخوض في الرواية التجريدية للتاريخ فإن عمر فضل الله يقبل التحدي لخوض هذه المغامرة الصعبة”.
وكشف فضل الله أن جميع أعماله وليست روايته “ترجمان الملك” تمزج الواقعية السحرية بالرؤية التاريخية وقال “أوظف الرواية المعرفية لتعكس عالماً حقيقياً لكنه مسكون بالخيال، وفي الوقت نفسه تمثل تياراً من الواقعية السحرية عبر المزج بين شخوص وأسماء ذكية (حقيقية ومتخيلة) تحترم ذكاء القاريء ووعي المجتمع الحدي وتحقق الهدف من كتابة الرواية المعرفية”.
وقد تأثرت روايات فضل الله بدراساته العلمية والبحثية يضيء ذلك الأمر موضحا “حين كتبت رواية (أطياف الكون الآخر) وهي تمثل الفانتازيا في أعمالي مزجت فيها بين علوم الفضاء والفلك وعلوم الطبيعة والدراسات الفلسفية والرياضيات والمنطق جنباً إلى جنب مع التاريخ واللامعقول والخيال العلمي. دراسة الحاسب الآلي وفرت لي إمكانات الكتابة والنشر والتوثيق مثلما وسعت آفاقي في مجال الكتابة”.
وأكد فضل الله أن وجوده في دولة الإمارات العربية المتحدة أتاح له الخلوة مع نفسه ليتمكن من الكتابة والإبداع و”ربما لو بقيت في السودان لما تمكنت من إنجاز كل هذه الأعمال والروايات ولما رأى الناس مشروعي الثقافي المعرفي. وما زلت أذكر نصيحة عبقري الرواية العربية الراحل الطيب صالح حينما لقيني في السودان في منتصف تسعينيات القرن الماضي نصحني بالهجرة لأتمكن من الكتابة وكان يعلم إمكاناتي الأدبية واستعدادي الفطري لكتابة الرواية فعملت بنصيحته. أبوظبي مدينة هادئة وجميلة وبذلك فقد يسرت لي بيئة الإبداع الكتابي إضافة إلى طبيعة عملي الذي لا يأخذ من وقتي إلا بداية النهار ويبقى في الليل متسع للهدوء والكتابة”.
وأضاف “أشهد معارض الكتاب في الشارقة وأبوظبي وأشارك فيهما بإطلاق أعمالي أو توقيعها للقراء كما أشهد المنتديات الأدبية المصاحبة والأعمال الثقافية بالإضافة إلى المنتديات الأدبية كالتي تعقد في رأس الخيمة وغيرها. وأتابع مسابقات “أمير الشعراء” من خلال التلفاز فقط، وأتابع فاعليات الجوائز الأدبية التي ترعاها دولة الإمارات العربية المتحدة ففيها حراك ثقافي كبير ويدار بقدر عال من الاحترافية والشفافية وحسناً صنعوا برعاية جائزة الرواية العربية (البوكر) لكنني أعتقد أن هذه الجائزة ينبغي أن تنال حيزا أكبر من الاهتمام والرعاية لتأخذ مكانها ومكانتها الطبيعية بين الجوائز العربية”.
ورأى فضل الله أن مراكز الدراسات الاستراتيجية في الوطن العربي تؤدي مهمتها بجهد كبير لكن حجم تأثيرها على صناعة القرار من العسير قياسه، باعتبار طبيعة أعمالها وطبيعة العلاقة بين مراكز الدراسات والسلطات وجهات صناعة القرار، لكنني بالرغم من هذا وكمراقب لأعمال ودراسات مركز الإمارات العربية المتحدة للدراسات الاستراتيجية وبقية مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية بالدولة، أستطيع أن أؤكد لك أن كثيراً من الدراسات التي قام بها هذا المركز وجدت طريقها لصانع ومتخذ القرار بالدولة، وشهدنا نتائج ذلك على واقع الحياة وإدارة الدولة، وانعكس ذلك في التقدم العلمي والتطور متسارع الخطى الذي تشهده الدولة”.
وقال فضل الله إن الحكومات العربية رغم ما يحدث في دولها من مشكلات كبيرة وصراعات وحروب وتمزق إلا أنها بدأت تلتفت مؤخراً لأهمية تقنية المعلومات وعلوم الحاسوب وتوظيفها في إدارة الأنظمة والمؤسسات الحكومية وغير ذلك من المجالات، فبدأت تهتم بأنظمة وبوابات الحكومة الإلكترونية والذكية وتوظيف التقانات المتقدمة في خدمة المواطن وإدارة شئون الدول، ولا يفوتني هنا أن أشيد بالدور الريادي لدولة الإمارات العربية المتحدة في إقامة ودعم هذا المجال بإنشاء مدن كاملة للانترنت، واستضافة مؤتمرات القمة العالمية للحكومات والمعارض الدولية للتقنية مثل معرض جايتكس السنوي وغير ذلك، لكن يبقى البون شاسعاً بالرغم من هذا كله بين العالم العربي وبقية دول العالم المتقدم في مجال توظيف تقنية المعلومات في حياتنا المعاصرة.
وأشار فضل الله إلى أن فشل المنظمات الدولية في تعريف هذه المصطلحات الدخيلة على عالمنا جعل العالم الغربي يوظفها ضد عالمنا العربي والإسلامي بطريقة تخدم مصالحه هو فقط، ففي حين نجد أن التطرف الديني نشأ في الغرب بالحروب الصليبية القديمة التي وفدت إلينا من أوروبا، واستمرت سنين عدداً ثم بالاستعمار الغربي للدول والشعوب العربية، وأخيراً بالحروب الحديثة التي يشنها الغرب – ولا يزال – على بلاد المسلمين فيخترع لها المسميات الكثيرة لتخدم أهدافه.
ولا تزال البشاعات التي ارتكبت ضد المسلمين واليهود في الأندلس بعد سقوطها على أيدي القشتاليين عالقة بالأذهان إلى يومنا هذا، فالتاريخ لا ينسى الإبادة لمجرد اعتناق دين غير المسيحية وإجبار جميع السكان على اعتناق المسيحية أو الموت.
وأما في عصرنا الحديث فقد نشأت الجماعات الدينية المتطرفة في الغرب تحت مسميات شتى أيضا، لكن المدهش أيضاً هو أن مصطلح الإرهاب أصبح موجها ضد بلاد المسلمين فقط فنشأت الجماعات الدينية المتطرفة في بلادنا فجأة. صنعتها نفس القوى التي تتخذها ذريعة لارتكاب أبشع الجرائم تحت مسمى الحرب على الإرهاب بما فيها تلك التي اعتبرت جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وتعرضت شعوب عربية إلى جرائم الإبادة والقتل والتدمير والتهجير.
لقد فشلت الأمم المتحدة في التوصل لاتفاقية دولية لمناهضة الإرهاب بعد أن عرض مشروع القانون على لجنة القانون الدولي، واللجنة القانونية (السادسة) التابعة للأمم المتحدة، واستمر الموضوع مطروحاً، ولا يزال منذ أكثر من أربعين عاماً. ولم تتمكن الأمم المتحدة من تعريف للإرهاب متفق عليه، ولم تتمكن أيضاً من تعريف الجريمة الإرهابية. والسبب ببساطة ان كثيراً من القانونيين وخبراء القانون الدولي، لم يخدعوا بالدوافع السياسية لوضع اتفاقية دولية للإرهاب. وبذلك فإن عدم وجود تكييف قانوني للإرهاب كجريمة محددة، أدى إلى استخدام المصطلح كسلاح سياسي، وإعلامي، ضد العالم العربي والإسلامي فقط، فصنفت دول عربية وإسلامية كدول إرهابية وذلك بقصد حصارها، وإضعافها، وعزلها دوليا، من أجل إخضاعها، وجلبها إلى بيت الطاعة، أو منعها من تحقيق أهدافها في التقدم والتنمية، واستقلال القرار.
واستعمل الإرهاب كذريعة للعدوان على دول عربية وإسلامية أخرى، ووصمت حركات المقاومة والتحرير بالإرهاب وهو الغرض الحقيقي من استحداث مصطلح (الإرهاب) أصلاً. لقد نجح الغرب في تصنيع الإرهاب وتصديره إلينا لنقوم نحن بوعي أو بدون وعي بتسويق بضاعتهم الفاسدة والصواب هو أن نسمى الجرائم بأسمائها، ونلاحقها ونعاقبها وندينها، طبقاً لتكيفها في القوانين الدولية والوطنية، وعلينا أن نتوقف عن استعمال تعبير الإرهاب سياسياً وإعلاميا مادام ليس له وجود كفعل جنائي. فاستعماله موجه ضدنا في العالم العربي والإسلامي فقط بينما تبرأ بقية الشعوب الأخرى منه.
محمد الحمامصي
عمر فضل الله لصحيفة آخر لحظة: أملك مشروعاً روائياً معرفياً
الفائز بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي 2018
• أملك مشروعاً روائياً يوثق للسودان
• الرواية الفائزة تشريقة المغربي هي سياق آخر للمهاجر العربية
• أعمالي تمزج الواقعية السحرية بالرؤية التاريخية
• روايتي القادمة “رؤيا عائشة” ستتناول حياة المهدي الخاصة
الدكتور عمر أحمد فضل الله الكاتب والروائي والباحث مابين العلم و والإبداع، فهو متخصص في تقنية المعلومات وعلوم الحاسوب وعلى مستوى الإبداع جمع بين الشعر والسرد والدراسة المعرفية والاسلامية وتحقيق التراث، وتزدحم مسيرته العلمية والإبداعية بالانجازات، نالت روايته “تشريقة المغربي” أخيرا جائزة الطيب صالح للرواية، وفي هذا الحوار معه نتعرف على كتابته الإبداعية ونلقي الضوء على أعماله
حوار: عيسي جديد
تخصصت فى كتابة الروايات المعرفية التي تهتم بالتوثيق للأحداث التاريخية الممزوجة بالواقعية السحرية؟
في حقيقة الأمر أريد أن أصحح شيئاً هو أنني أكتب روايات تلعب فى ميدان التاريخ، فيوجد ما يعرف بالرواية التاريخية ويوجد جدل كبير حولها، لكن ما أكتبه أنا هو الرواية المعرفية التي تمزج التخييل بالحقائق التاريخية لتحث القاريء على العودة الى قراءة التاريخ. فالتاريخ ليس حقيقة منتهية الصلاحية بل هو شاخص في حاضرنا بأسره، ورواياتي تثير أسئلة كثيرة جداً ، فالوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما هو في أعمالي وخاصة الرواية الفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية “تشريقة المغربي” فقد أسستها على وقائع تاريخية مؤكدة، أستغل فيها فراغات التاريخ وفجواته فأُدخل فيها شخصيات وأحداثاً مستوحاة من خيال المؤلف. أنا مهتم بهذا المجال لأني أريد أن أقدم للناس مشروعاً ثقافياً عبر كتابة الروايات ليس من أجل المتعة فقط بل من أجل المعرفة أيضاً ويمكنك القول أن أعمالي تمزج الواقعية السحرية بالرؤية التاريخية..
مقاطعا …الشاهد أن كتاباتك تتكيء على الذاكرة التاريخية لوسط السودان دون غيره فلماذا؟
نعم أكتب عن تاريخ وسط السودان المنسي فالطيب صالح كتب عن شمال السودان وإبراهيم اسحق كتب عن غرب السودان وغيرهم كتب عن شرق السودان وهذا ليس انحيازاً للمناطقية ولكنه سد للفراغات التاريخية المنسية للحضارات ولذلك اخترت الكتابة عن دولة علوة قياماً وسقوطاً وكذلك دولة سنار والسلطنة الزرقاء قياماً وسقوطاً وكذلك مجيء الأتراك وأثرهم فى المنطقة والآن أكتب عن المهدية..
هنالك لغط وجدل حول الكتابة التاريخية، فهناك كتاب يجيررون بعض المواقف ويحاولون تغييرها دون غيرها فكيف تتخطى هذا الاتهام فى كتابتك للرواية المعرفية؟
في الواقع لا أكتب الرواية هكذا لمجرد الكتابة، لكني أحتشد لها بكل الوثائق والمعلومات مع المقارنات والتفحص، وأقرأ كل ما كتب وأخرج بأسئلة كثيرة حتى التاريخ المنسي لذلك الرواية تحكي وتطرح أسئلة حائرة وهذا فى جميع أعمالي مثل رواية “ترجمان الملك” و”أنفاس صليحة”
هل لديك تجربة مشاركة سابقة في جوائز للروايات وماهي؟
أذكر أني من قبل هذه فوزي بهذه الجائزة شاركت مرة واحدة فقط في إحدى الجوائز العربية المشهورة وكانت تجربة جعلتني أزهد فى المشاركات فروايتي تم اختيارها ضمن القائمة وترشيحها للفوز لكن تبين أن الرقم الدولي الموحد للكتاب الذي تحمله الرواية (ردمك) (ISBN) والمخصص للسودان غير مفعل لأن السودان لم يسدد الإشتراك للمنظمة لذلك تم استبعاد روايتي ولم تنافس، وعند سؤالي للمسئولين بالمكتبة الوطنية السودانية قالوا نحن نسدد إيرادات المكتبة منتظمة الى وزارة المالية لكن المالية لم تدفع رسوم تجديد الاشتراك لانها بالعملة الاجنبية والعملة الاجنبية موجودة ببنك السودان ولذلك فأي كتاب يطبع فى السودان لا يدخل ضمن منظومة المجتمع الدولي للكتاب والسبب هو عدم تسديد الاشتراكات.
تفاصيل مشاركتك فى جائزة الطيب صالح وفوزك بها حدثنا عنها ؟
جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي أصبحت تظاهرة ثقافية وعيداً ينتظره الناس كل عام للمرة الثامنة على التوالي في احتفائهم بعبقري الرواية العربية ذاك الذي صنفت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” ضمن أعظم مائة رواية في القرن العشرين. ومشاركتي جاءت بعد نصيحة من صديقي الأستاذ الدكتور عثمان أبوزيد بالمشاركة وشاركت وفزت والحمدلله
وماذا عن الرواية التي فازت بالجائزة “تشريقة المغربي”؟
هي رواية تجمع بين الخيال والواقع والعنوان تروي حكاية الشاب المغربي الذي هاجر شرقاً وهو رمز لهجرة المغاربة من المغرب العربي إلى السودان حيث كان لهم الأثر والدور الكبير فى السودان فى التمازج وهذا الرمز “عبد السميع المغربي ” فى الرواية هو كاتب حجج السلطان مثل مسجل عام الأراضى اليوم بالسودان. وقد شهد مجلس السلطان وعرف القادة وهكذا نجد الأسئلة فى سيرته بجانب السؤال عن ماهو دور الشيخ إدريس بن محمد الأرباب فالرواية مليئة بالحراك والصراعات فى تلك الفترة والثروات الهائلة التي كانت فى السلطنة
الكتابة الروائية التاريخية تحتاج الي جهد لغوي ومفردات مختلفة لتحشدها في النص كيف تمكنت من اللغة بهذا الشكل ؟
أنا أقرا فى التاريخ كثيراً ومطلع على ما كتب عن السودان، واستفدت أيضاً من دراستي للقران الكريم وحفظي للشعر الجاهلي القديم وعندي ملكة اللغة العربية فقد شهد لي الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب بذلك وبحمد الله منحني الله الخيال.
الرواية السودانية الآن أين تقف؟
الرواية السودانية تقف على أرض صلبة فهي قد مرت بفترات مختلفة لكنها متصاعدة فمنذ السبعينات كانت عن أثر الاستعمار والوطنيات والاجتماعيات مروراً بالثمانينات والتسعينات التي كانت سياسية بامتياز والان في الألفية اتجه البعض إلى الكتابة التاريخية والبعض كتب عن تجاربه الشخصية وعن طبقة معينة من المجتمع وفيها لون سياسي يهتم بالهامش والأطراف لكنني أكتب روايات معرفية عن أثر التاريخ فى الحاضر وأطرح التساؤلات ..!!
إذا ماهو مشروعك الروائي القادم ؟
أكتب روايتين الأولى “المنتظر وفق رؤيا عائشة” زوجة محمد احمد، وهي رواية تتكلم عن المهدي عبر رؤيا عائشة وعن الحياة الخاصة لمحمد احمد وكيف تقدم اليها يخطبها وكيف كانت معه في أيامه الاخيرة قبل وفاته ومنها تدلف الى دعوى مهديته..
مقاطعا ..الكتابة عن تاريخ المهدية يفتح جدلا لا ينتهي، ما هي مصادرك التي سوف تتناول منها هذه الرواية المثيرة للجدل من الان ؟
نعم أنا كاتب جريء ومستعد للنقاش والحوار والدفاع عن ما أكتبه و في الحقيقة أقصد أن أثير هذا الحراك الثقافي التاريخي لان ما أكتبه لا تستطيع أن تحاكمه تاريخياً لكنك تسطيع أن تحاكمه أدبياً إلا إن جانب المتفق عليه في التاريخ وكما قلت لك سابقا فأنا أحشد كل المصادر من أجل الكتابة المعرفية ومصادري هنا فى هذه الرواية مستندة الى جدنا الفحل الذي حين كان صغيراً كان يجلس فى مجلس الياس باشا ام برير فى امدرمان وكان والده القاضي الفكي الطاهر أحد قضاة المهدية. وكل ذلك سوف يكون فى الرواية التي لا أريد إفسادها الآن…!!
لكن هنالك من يتهم الذين ينقبون بالكتابة عن سيرة المهدي بالباحثين عن الشهرة؟
لا أظنني من هذا النوع فأنا أكتب للمعرفة، ومعلوم أن بعض الكتاب كتب عن النبي صلي الله عليه وسلم وعن الصحابة، فلماذا نعتقد أن الكتابة عن المهدي تثير مثل هذا الجدل؟ ويتهيبها الناس وتعتبر الكتابة عنها خطاً أحمر؟ المهدي شخصية سودانية لها أثرها التاريخي بايجابياته وسلبياته ومن حق أي شخص أن يتناول سيرته دارساً ومحققاً.
وماذا عن الرواية الاخري التي تشرع أيضاً فى كتابتها الان؟
هي رواية باسم “ذاكرة الارض” وهي تعالج فترة دخول الاتراك للسودان وتوثق لممارستهم وتتبع تحركهم في السودان.
هل يمكن تحويل أي من رواياتك التاريخية الى فيلم سينمائي ؟
ليس لدي أي مانع متي ما وجدت كاتب اليسناريو الممتاز لتحويل أي عمل روائي لي الى فيلم مشوق وأكشف لك سراً بأن رواية “ترجمان الملك” سوف يتم تحويلها الى فيلم وهنالك وأستعد هذه الأيام للسفر الى هوليوود لمزيد من النقاش حول صناعة الفيلم!!
الروائي العالمي عمر فضل الله يخص “الجوهرة” بمقابلة بعد صدور روايته “أنفاس صليحة” “2-2”
عمر فضل الله: ذاكرة المكان ارتباطها بالتاريخ هي مثل النسيج في الثوب كلما اتسعت رقعته وتنوعت ألوانه ازداد جمالاً
أعمال عمر فضل الله لا علاقة بين شخوصها وشخصية الكاتب
هذا ليس زمان الشعر.. وذلك لا يعني أنني طلقته فهو يعيش في حنايا العروق
حاورته: احلام مجذوب
ربما كان الدخول فى عالم الروائي عمر فضل الله مخاطرة، والسؤال حول تاريخ الرواية، وملامحها ومشكلات الكتابة وكيفية معالجتها، تدخلنا فى دهاليز متشعبه من ثقافة وألق تسكن الراوي تجعلنا نقف جميعا ونرفع القبعات تقديرا وعرفاناً لرجل بقامة وطن، دون مجاملة ولا مواربة المهمة مربكة والمواصلة فيها نوع من المجازفة، لكنها شديدة الإمتاع خاصة مع هذا الكم الهائل من التشويق والإثارة الذى يمتلكه هذا الروائي الفذ.
لماذا تحرص في أعمالك على تعميق الفضاء المكاني والتكريس له؟
أنظر للمكان نظرة شاملة وكلما اتسعت الرقعة المكانية اكتسى الحكي معرفية ثرة وعميقة، وفي تقديري أن هذا ينطبق على السفر أيضاً فكلما سافر الإنسان وساح في الأرض يجد مراغماً كثيراً وسعة وتتسع آفاقه وتزداد معارفه. وبالعودة للسرد والحكي ويعتقد الراوى أن الفضاء المكاني هو مسرح الرواية وأن ذاكرة المكان في ارتباطها بالتاريخ هي مثل النسيج في الثوب كلما اتسعت رقعته وتنوعت ألوانه ازداد جمالاً. لكن جمال مثل هذه الثياب يتوقف على قدرة الحائك وبراعته فهو ينصح كل كاتب أن لايتوسع في الفضاء المكاني إلا إن درسه بعمق وعرفه بخبرة ودراية وإلا لانخرق في يده واتسع الخرق على الراقع.
اختلف النقاد حول أعمالك فقد كتبوا في أنفاس صليحة أن الرواية تعالج المشكلة الأساسية التي عالجها من قبل عدد من الكتاب وأنها المشكلة ذاتها التي عبر عنها الرواي العالمى باولو كويلو في روايته الخيميائى وساحروبورتبيلو ومكتوب ومحارب النور وعند النرويجي جوستاين غاردر فى روايته عالم صوفي والكاتب الاسبانى لانزا ديل فاصتو فى روايته الحج الى الينابيع وقصدوا بذاك مشكلة الصراع كيف ترى ذلك؟
على افتراض أن ما أوردته هو صحيح ألا ترى أن إخراج عمل أدبي سوداني يعالج مشكلة الصراع هو في حد ذاته إضافة للأدب العالمي؟ لكني لا أتفق معك في الفرضية آنفة الذكر لأنني أعتقد أن “أنفاس صليحة” هي عمل غير مسبوق من حيث كونها كتبت في العجائبيات بطريقة مختلفة عما كتبه باولو كويلو أولانزا ديل فاصتو وغيرهما ونحن سبقنا هؤلاء الأدباء منذ القديم حين كتب ود ضيف الله عمله (الطبقات) الذي أعتبره عملاً أدبياً في المقام الأول فقد كتب عن العجائبيات لأجل صناعة الدهشة بينما تعتبر رواية أنفاس صليحة حلقة ضمن سلسلة أعمال في الرواية المعرفية التاريخية كتبت للتنوير المعرفي، وفي الوقت نفسه يعتبرها النقاد سابقة في العمل الأدبي الذي يمزج الخيال بالحقائق التاريخية دون أن يتغول عليها أو يفسدها، وسوف تجد أن كل حلقة لها أسلوبها المتفرد وشخصيتها المتميزة في معالجة التاريخ السوداني الممزوجة فيه الحقائق بالخيال والمتعة والحبكة والروي ضمن مشروعي الثقافي المعرفي المتكامل.
ذكرت كيف تأثرت الناقدة الكبيرة دكتورة زاهية أبوالمجد برواياتك حول تحليل دقيق للسردية المعرفية وقلت عنها إنه تحليل سابق لأوانه وأن المقال يصلح قاعدة لتحليل أعمالى ورواياتى المعرفية وضح لنا ذلك؟
تمكنت الدكتوره زاهية – وهي التي قرأت كل أعمالي الأدبية تقريباً- وخاصة بعد اطلاعها على مسودة آخر أعمالي غير المنشورة – من تقييم هذه الأعمال كأنموذج سوداني ناجح، للرواية المعرفية التي تجمع بين الحقيقة والتخييل كطريقة مبتكرة لتقديم التاريخ بصورة سهلة الهضم، كما لاحظت أيضاً أن بعض الشخوص التي استحدثتها في رواياتي هي مجرد شخصيات خيالية لكن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وأنها مؤسسة على وقائع تاريخية مؤكدة، تم من خلالها استغلال فراغات التاريخ وفجواته لإدخال شخصيات وأحداثا مستوحاة من خيال المؤلف. وأن عنصر التخييل في روايات عمر فضل الله يسير جنباً إلى جنب في نسيجه السردي وسداه مع الحقيقة التاريخية لكنه لا يمنحه الهيمنة الكاملة بل يجعل منه مجرد عنصر مساعد فقط لتمكين الحقائق التاريخية في ذهن القاريء عبر السرد، وأن له القدرة على مزج التخييل التاريخي والعجائبي والذاتي مع الحقيقة التاريخية في نسيج متميز ينتج لنا روايات عمر فضل الله المعرفية. وأن نجاح أعماله يكمن في قدرته على شرح علاقة السرد كخطاب بالمعرفة كتجربة وذلك لكون آلية التخييل التي تعيد بناء التجربة النوعية وتسريدها من خلال نصٍّ تعاقُبيٍّ في الحبكة الروائية المتصلة تقوم بتحريك التاريخ وتقديمه للقاريء ليس باعتباره تجربة ماضية منقطعة، بل باعتباره فكرة دائمة التدفق شاخصة في الزمان وشاهدة على أحداثه من خلال الرواية المعرفية وأن عبقرية المؤلف تتجلى في سرد الحبكة الروائية التي تستعير أحداث الماضي وتخرجها من سياجها الموضوعي والزماني لتطلقها في فضاء الحاضر متكئة على إمكانات المؤلف المعرفية وتقنياته الكتابية، وملكته اللغوية، وتدمج كل ذلك في إشكالات الحاضر وهمومه وربطه كل ذلك بأسئلة الهوية السودانية.
قال الطيب صالح أن لاجدال في أن النص الأدبي ليس سجلاً لسيرة الكاتب ولا ينبغي لها أن تكون. هل ينطبق هذا الكلام معك؟ ومارأيك؟ وإلى أي مدى تقترب منك شخوص رواياتك أم أن ماتكتبه بعيد عنك كل البعد.
هذا الأمر يختلف باختلاف الكتاب فبعض الروايات تكون مجرد اسقاطات نفسية لمغامرات وتجارب بعض الكتاب، حيث تتجلى فيها شخوصهم في شخصية أبطال الرواية لدرجة أن بعضهم يعيش في الوهم ما يعجز عنه في الحقيقة وخاصة مغامراتهم مع النساء أو بطولاتهم المتوهمة فيسجلها في أعماله الروائية أما الروايات الناضجة فليس بالضرورة أن تتماهى شخوصها مع شخصية الكاتب أو تعبر عنها بأي حال من الأحوال. وعلى كل حال فإن أعمال عمر فضل الله لا علاقة بين شخوصها وشخصية الكاتب إلا في ذهن القاريء فقط حين يحاول المقارنة أو المقاربة عبثاً لكن يبقى المؤلف هناك متميزاً ومستقلاً عن أبطال أعماله. فقط يسكب بعضاً من روحه في العمل الإبداعي ليمنحه النكهة الخاصة.
لك ديوان شعر: (زَمَانُ النَّدَى والنَّوَّار) و(زَمَانُ النَّوَى والنُّوَاح)، وغيرهما ألا ترى أن الرواية أخذت منك كثيراً وهزمت الشعر، ربما يظن بعضنا ذلك؟
يوجد في زماننا هذا شعراء وشاعرات أضافوا وأضفن للإبداع الشعري الكثير وكما تعلمون فقد بدأت بكتابة الشعر لكنني انتقلت لكتابة الرواية حين علمت أن هذا ليس زمان الشعر فالرواية مقروءة ومطلوبة من أجيال هذا الزمان أكثر من الشعر غير أن ذلك لا يعني أنني طلقت الشعر فهو يعيش في حنايا العروق.
قمت بتحقيق كتاب الفحل الفكي الطاهر: (تاريخ وأصول العرب بالسودان)،لماذا ..؟
كتاب «تاريخ وأصول العرب بالسودان» الذي ألفه الفحل بن الفقيه الطاهر وجمعه في آخر عمره، يعتبر من المؤلفات السودانية القليلة في تاريخ العرب بالسودان، التي كتبها مؤرخ سوداني، فلم يصدر قبله إلا عدد قليل من المؤلفات التي تنسب إلى مؤرخين سودانيين، مثل الدكتور مكي شبيكة والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن، ذلك أن معظم المؤلفات في تاريخ السودان كتبها مؤرخون مستشرقون، أو باحثون أجانب أو كتبها مؤلفون عرب من غير السودانيين من المبتعثين للتدريس في الجامعات بالسودان أو الذين تعرضوا للدراسات السودانية بحكم عملهم ووظائفهم وقد كتبت معظم هذه المؤلفات إبان الاستعمار الإنجليزي للسودان أو بعيد الاستقلال بفترة قصيرة. وأن كتاب الفحل قد بذل فيه جهدا كبيرا في جمع مادة الكتاب حيث سافر المؤلف إبان شبابه إلى كثير من القرى والأمصار وقابل الثقات ونقل عنهم، فأخذ بذلك من مصادر نادرة انفرد بها.
وكان هدفي الأول هو أن يظل هذا الكتاب في متناول الجميع بعد أن نفدت نسخ الطبعة الوحيدة منه منذ ما يقرب من أربعة عقود واختفت من المكتبات، ولم يقم أحد بإعادة طباعتها رغم أهمية هذا المرجع الذي لا غنـى لمن يدرس أو يبحث أو يكتب في تاريخ وسير وأنساب العرب بالسودان، بل لا غنـى لمن يكتب في تاريخ السودان عنه.
وكنت قد اطلعت على هذا الكتاب منذ عدة عقود، ولاحظت الطباعة السيئة والإخراج الرديء الذي لا يليق بهذا السفر النفيس، رغم أن من طبعه في ذلك الوقت قد بذل الجهد بما تيىسر له، كما لاحظت أنه لم ينل حظه من الدراسة والتحقيق بما يليق به فكان ذلك أول ما حفزني لإعادة جمع وإخراج وطباعة الكتاب فهو يوثق لأصول القبائل العربية في السودان، ويدعو لصلة الأرحام مثلما أراد مؤلفه الفحل رحمه الله. وقد نوهنا في المقدمة أنه ينبغي ألا يفهم من هذا إحياء لنعرة عنصرية أو قبلية أو جهوية أو تفضيل عنصر على غيره فإن السودان مليء بالقبائل غير العربية وهي قبائل ذات فضل كبير ونسب عريق ومقام رفيع وقد كتب عنها المؤرخون وأفردوا لها المصنفات ولا مجال للمفاضلة بين قبيـلة وأختها فقد ذهـب هذا العهـد الجاهلـي وانقضى. وأن من اقتنى هذا المؤلف لقصد إحياء النعرات أو المفاخرة بالقبائل والآباء فإننا ننصـحه ألا يمضي قدماً في القراءة فهذا الكتاب ليس له ولن يجد ضالته فيه.
كتاب (حرب المياه على ضفاف النيل: حلم اسرائيلي يتحقق)، لعله بعد آخر لمشروعك الكتابي كيف تراه؟
هو دراسة للصراع حول مصادر المياه التي تعتبر من أهم الدراسات في هذا العصر تناولت فيه مشكلة الصراع الاستراتيجي حول مصادر مياه النيل وتدخل اسرائيل المباشر لإدارة الصراع وتوجيهه لمصلحتها وتأثير ذلك على علاقات الدول المشاطئة، وما ينجم عن الصراع من توترات وآثار كما ناقشت فيه بعض الحلول الآنية الظرفية والدائمة لمشكلة تقاسم مياه النيل والقوانين الدولية التي تحكم تشاركية المياه. والدراسة تدخل ضمن اهتماماتي بالدراسات الاستراتجية للمنطقة.
الروائي العالمي عمر فضل الله يخص الجوهرة بمقابلة (1-2)
الروائي العالمي يخص “الجوهرة” بمقابلة بعد صدور روايته “أنفاس صليحة” “1-2”
عمر فضل الله: الأسطورة تجعل الكاتب يطير حراً محلقاً في سماوات الوهم والخيال
استدعي أدوات اللغة وذخائر البلاغة .. أحتشد للكتابة بالعقل والمشاعر والوجدان .. وأبحث عن الرواية في زوايا الطرقات القديمة والازقة المهجورة.
خلطت الأسطورة بالحقائق التاريخية .. أنفاس صليحة دفع جديد في مشروع الرواية .. تقنيه الكتابة عندي بمثابة انتقال من عالم الحضور إلى عوالم الاستغراق.
حوار: احلام مجذوب
عُرفت إسهاماته المتنوعة في العديد من مجالات المعرفة والأدب والفكر والدعوة، وهو شاعر وأديب. له عدد من البحوث في المعلومات وتقنياتها، له ديوانا شعر: (زَمَانُ النَّدَى والنَّوَّار) و(زَمَانُ النَّوَى والنُّوَاح) كما له قصاصات شعريه لم تنشر بعد ومن رواياته: (تُرْجُمَانُ المَلِكِ)، و(أطياف الكون الآخر) و(نيلوفوبيا)، كما قام بتحقيق كتاب الفحل الفكي الطاهر: (تاريخ وأصول العرب بالسودان)، وله كتاب (حرب المياه على ضفاف النيل: حلم اسرائيلي يتحقق)، وأخيراً (أنفاس صليحة).. يمثّل الروائى عمر فضل الله حالة فريدة في المشهد الروائي السوداني والعربي على حد السواء، أصدر عدداً من الكتب الشعرية بجانب الروايات. كتبت عنه دراسات كثيرة، واهتمّ عدد غير قليل من النقاد والدارسين بشعره ورواياته كحالة خاصة.. صدرت له خلال الأيّام القليلة الماضية، رواية “أنفاس صليحة” أبحرنا معه عن بداياته الأولى في الكتابة، عن لحظات الولادة، عن شخوص رواياته وكيفية التّواصل مع الآخر ، عن دوره الوظيفيّ في حركة “روائيي العالم” بصفته ظاهر بكثافة في المشهد الثّقافي العربيّ وخارجه، ليصبح روائياً عالمياً.. تقنية الكتابة عنده بمثابة انتقال من عالم الحضور إلى عوالم الاستغراق وانتقال من عالم اليوم بالسفر إلى عوالم الأمس القديم الذي طوته الأيام وغاب بين ثنايا الأحداث، يبحث عن شخوص الرواية في زوايا الطرقات القديمة والأزقة المهجورة والقرى المنسية ثم يتقمص تلك الشخوص فيفكر بعقلها ويتصرف وفق زمانها ثم يعود إلى واقعه فيستدعي كل أدوات اللغة والبلاغة وذخائر المفردات وذاكرة التاريخ ليرسم لوحة مجسمة لذاكرة الأيام، بفرشاة يرسمها على الورق أو الحاسب الآلي يرسمها بالحرف ويحيل التاريخ إلى الخيال المحكي فيبعث فيه الحياة ويقدمه للقارئ على طبق من حب، وهنا تكتمل الرواية ويكون التوقيع عمر فضل الله.
«الجوهرة الرياضية» حاورته فى محاولة لكشف كواليسه الخاصة لكتابة أعماله الإبداعية مثل «أنفاس صليحة» وقصاصات أدبيه لم تنشر بعد .. وناقشته فى رؤاه الجادة من أجل إصلاح فهم الكثير من الخبايا التي تختفى بين السطور معا نطالع ردوده …
بداية ماذا عن محتوى العمل الجديد أنفاس صليحة؟ وهل هي تفسير تأريخي أم تعريف له؟
أنفاس صليحة هي دفع جديد في مشروع الرواية المعرفية، وهي ليست تفسيراً للتاريخ ولا هي تعريف به، بل هي دعوة للأجيال الحالية التي تستهويها قراءة الرواية لينتبهوا أن تاريخنا يزخر بالكثير الذي يجب أن يكون حاضراً في واقعهم ومستقبلهم.
لماذا اخترت أنفاس صليحة عنواناً للرواية الصادرة عن دار مدارات وما هو مدلول هذه التسمية عندك؟
ما رأيكم أن أستدعي صليحة من ماضيها لتتولى الإجابة؟ تقول لكم صليحة: (سوف أنقلكم عبر أنفاسي للماضي لتعودوا معي بأرواحكم حيث يتوحد دفق أنفاسي مع نفث أنفاسكم فنصير روحاً واحدة، ترى بعين الروح في الماضي ما يراه النّاس بعين الحقيقة في الحاضر، فتحكون لي ما تشاهدونه، تحكونه بتفاصيله. فتتآلف أرواحنا لتروا بأعينكم ما رأيته أنا في الماضي ولو تساءلتم ما علاقة تآلف الأرواح بالحكايات؟ وكيف تعودون إلى الماضي في الحقيقة وليس في الخيال؟ فسوف أقول لكم إن الأمر كله متعلق بالمحبة يا أبنائي. لأنكم حين تحبون أحداً حباً عظيماً ويبادلكم ذلك الحب فإن أرواحكم تلتقي وتأتلف وتتوحد كأنَّها روح واحدة، وتذهب حيث يريد أحدكم أن يذهب، فيرى ما يراه الآخر. فالأيام مطايا الأحداث والقلوب بوابات الزمن، وكل قلب له يومه، وكل يوم له مدخله الخاص، فهو باب إلى الماضي يسوقك عبر درب غير درب اليوم الآخر، فترى من ناحية مختلفة لا ترى مثلها في اليوم الآخر). هذه هي حكاية أنفاس صليحة. وأما أنا عمر فضل الله فأقول لكم إن أنفاس صليحة تقدم أنموذجاً للنص الروائي العجائبي من خلال شخص صليحة التي تقوم بأفعال عجائبية، خارقة للواقع الإنساني ومشحونة بالتجليات العجائبية من خلال (الأنفاس) أو النقاء الروحي الذي يحكي السرد الأدبي والتاريخي عبر النص العجائبي المعرفي كجنس أدبي مستقل متفرد بحضوره السردي، الذي يتبلور من خلاله مفهوم الرواية المعرفية شاخصاً واضحاً. وهي تقدم للناس عبر أنفاسها عالماً حقيقياً لكنه مسكون بالخيال الذي يحكي الموروث الشعبي ويعيد توظيف الحكايات الشعبية بفهم جديد مثل حكاية خراب سوبا وتوظيف قصة عجوبا، ولكن عبر شخوص وأسماء ذكية تحترم ذكاء القاريء ووعي المجتمع الحديث.
أنفاس صليحة قمت بتجذيرها في المحلية هل ترى أن هذا المنحى كان سبباً فى تعتيم خطابها وحجب قيمتها الحقيقية؟
لا أدري من أين أتيت بهذا الحكم على الرواية فهي ليست محلية بكل تأكيد، فقد بدأت أفريقية مغربية عالمية تمتد حكايتها ومكانها وشخوصها وأبطالها وحتى لغتها وحوارها من أقصى المغرب العربي على امتداد الشريط الأفريقي من المحيط إلى البحر لتنتهي عند دولة علوة التي كانت تعتبر من أكبر الممالك في العالم في زمانها. ولم يكن خطاب الرواية معتماً ولا حبكتها ولا لغة السرد. أما قيمة الرواية الحقيقية فهي في كونها رواية معرفية ناضجة لم يحجبها ما أسميته أنت محلياً ولم تقعد بها مناطقيتها عن عالميتها.
الثعلب والذئب فى العبارة: (ثعلب يقف أعلى التلة وأذناه متجهتان نحوك لعله سمع وقع أقدامك، ورجلاك ماعادتا تقويان على حملك ولكنك لا تستسلمين. أصوات نباح الكلاب تأتي من بعيد فتجاوبها أصوات كلاب أخرى وهناك شىء يراقبك ويتبعك من خلفك ربما كان ثعلباً أو ذئبا..) من أنفاس صليحة ألا ترى فيها حالات مربكة ومبهمة أحيانا أخرى؟
الكاتب يحكي هنا ما يدور حول الصبية صليحة من أحداث وأخطار تحدق بها في الصحراء في ظلمة الليلة وهي غير منتبهة وغير مبالية في سبيل اللحاق بجدها، وهي مستعدة لأقصى درجات المجازفة في سبيل ما تعتقد أنه الصواب وفي سبيل اللحاق بمن تحب. بل هي تتحدى المجهول وتهزأ به. والنص المذكور يعرض ما يقابله كل من يسير في الصحراء ليلاً وأكثر الحيوانات المنتشرة في الصحراء هي الثعالب والذئاب، علماً بأن صليحة تعرضت لهجوم الذئب عليها حين وقعت على الأرض قبل أن ينقذها أهل الفريق. ما رواه الكاتب هو وصف دقيق ومتابعة لرحلة الصبية صليحة! ولو ترى أن مثل هذه الأخطار التي ذكرت في بداية الرواية تهون حينما ترى الأخطار الحقيقية بعد ذلك.
تقنية الكتابة عندك من أين ترتكز تفاصيلها؟
عمر فضل الله يحتشد للكتابة بكل ما أوتي من عقل ومشاعر ووجدان. لحظات الكتابة عنده هي بمثابة انتقال من عالم الحضور إلى عوالم الاستغراق وانتقال من عالم اليوم بالسفر إلى عوالم الأمس القديم الذي طوته الأيام وغاب بين ثنايا الأحداث، يبحث عن شخوص الرواية في زوايا الطرقات القديمة والأزقة المهجورة والقرى المنسية ثم يتقمص تلك الشخوص فيفكر بعقلها ويتصرف وفق زمانها ثم يعود إلى واقعه فيستدعي كل أدوات اللغة والبلاغة وذخائر المفردات وذاكرة التاريخ ليرسم لوحة مجسمة لذاكرة الأيام، بفرشاة يرسمها على الورق أو الحاسب الآلي يرسمها بالحرف ويحيل التاريخ إلى الخيال المحكي فيبعث فيه الحياة ويقدمه للقارئ على طبق من حب.
استخدامك الأسطورة فى أطياف الكون هل يعفيك من رفض الواقع كماهو أم هو حال كشف وتبحر أكثر للوقائع؟
الأسطورة تجعل الكاتب يطير حراً محلقاً في سماوات الوهم والخيال واللامعقول ليقول للناس ما لا يمكن أن يقال في الحقيقة، وليجعل العقول تتوهم قبول ما لا يمكن أن تتعايش معه لو احتكمت إلى الواقع وبذا فالأسطورة هي وسيلة يلجأ إليها الكاتب ليبحر بالقاريء في عوالم جميلة قبل أن يعود به إلى مآسي الواقع وبهذا يكون الوقع عليه أقل وطأة. فأطياف الكون الآخر طافت بنا في عوالم الأسطورة لتنتهي بنا إلى عوالم حقيقية وناقشت قضايا فلسفية وآيديولوجية بطريقة مشوقة وخلطت الأسطورة بالحقائق التاريخية فطرقت تاريخ العقائد والأديان (بدءاً بالوثنيات القديمة ثم الحنيفية الإبراهيمية ثم اليهودية والنصرانية لتنتهي بالإسلام) من مدخل لم يتطرق إليه أحد من قبل وخلصت إلى مناقشة الواقع من باب خفي يكتفي بالإشارات عن صريح العبارات.
الروائي عمر فضل الله في حديث للرأي العام حول روايته الجديدة (أنفاس صليحة)
الروائي عمر فضل الله في حديث للرأي العام حول روايته الجديدة (أنفاس صليحة) والفضاء الروائي العام عربياً وعالمياً وسودانياً
أجراه عيسى الحلو:
عمر فضل الله روائي وشاعر، ومفكر. متخصص في تقنية المعلومات. يعمل مديراً لمشاريع تقنية المعلومات وأنظمة الحكومة الإلكترونية والذكية بدولة الإمارات العربية المتحدة
من أعماله:
- دواوين شعر:
(زَمَانُ النَّدَى والنَّوَّار) (1428هـ – 2007) - (زَمَانُ النَّوَى والنُّوَاح) (1431هـ 2009).
- روايات:
- “تُرْجُمَانُ المَلِكِ”(1435هـ- 2013)
- “أطياف الكون الآخر” (1436هـ -2014)
- “نيلوفوبيا” (1437هـ 2016)
- “أنفاس صليحة” (1438هـ – 2017)
- “تشريقة المغربي” (1438هـ – 2017) غير مطبوعة
- أعمال أخرى:
- “حرب المياه على ضفاف النيل – حلم إسرائيل يتحقق”(1435ه-ـ 2013)
- “تاريخ وأصول العرب بالسودان للفحل الفكي الطاهر: تحقيق ودراسة” (1437هـ 2015).
- له مقالات وبحوث منشورة في عدد من المجلات والدوريات العالمية.
لماذا اخترت الرواية كجنس تعبيري لمشروعك الأدبي والفني؟
الناس يحبون الحكايات بالفطرة. منذ الصغر كنا نسمع أحاجي (الحبوبات) قبل النوم، نسمعها مهما تكررت وقد نحفظها من كثرة التكرار لكننا رغم ذلك لا نمل سماعها. وأنا اخترت الرواية لاحتوائها على عناصر التشويق والمتعة والجمال وبذلك فهي تصلح وسيلة ناجحة لتوصيل رسالتي الأدبية والفكرية إلى الأجيال الحالية واللاحقة.
بدأت بالشعر. لماذا تركته؟ هل لأن هذا هو عصر الرواية؟
لم أترك الشعر فله مناسباته ومحبوه وقد أشربت حبه منذ الصغر لكن لم تعد له مثل مكانته القديمة ولا رسالته وأثره في نفوس شباب اليوم وبهذا فلو قلت إن هذا هو عصر الرواية فلن تكون قد أبعدت النجعة، رغم أن الشعر لا يقوم مقام الرواية ولا الرواية تقوم مقام الشعر فلكل جنس من هذه الأجناس الأدبية رسالته وعشاقه.
اتجه الكتاب الشباب لكتابة الرواية لأنهم يعبرون عن مأزقهم الموجود بإتقان كامل وهذا ما لا يسعف الكتابة الشعرية؟
هذا صحيح فالشعر يقيدك بالقافية والوزن والتفعيلة ويضعك في قالب أضيق من قالب الرواية ولهذا فليس كل الناس يقول الشعر فله ملكة خاصة لكن كثيرين يمكنهم كتابة الرواية لوصف واقع أو لمجرد الجنوح إلى الخيال هروباً من الواقع أو تمرداً عليه.
ماذا عن المشهد الروائي السوداني الآن؟
نحن نشهد انفجاراً مدوياً في كتابة الرواية في السودان لم نعهده من قبل فقد كان الروائيون في السابق يعدون على أصابع اليدين لكننا بتنا نشهد ظهور أعداد مهولة من كتاب الرواية كل عام بل أصبحنا نقرأ لروائيين سودانيين ينافسون الروائيين العالمين فيحوزون الجوائز وتتحدث عنهم المجالس الأدبية وتنتشر أعمالهم في وسائط التواصل الاجتماعي والصحف السيارة. كما أن الجوائز الأدبية قد أشعلت لدى الشباب روح المنافسة وحفزتهم على الكتابة والاتجاه لهذا النوع من الأدب، وقد يكون اتجاه الشباب والروائيين لكتابة الرواية والإقبال على قراءتها هو مجرد هروب من الواقع إلى عوالم الخيال والوهم والفانتازيا والأحلام.
هل أنت مع المقولة التي تجعل من الطيب صالح سقفاً للرواية؟
لا أعتقد أن للرواية سقفاً نضع فوقه كاتباً روائياً وينتهى الأمر ولا أعتقد أن الطيب صالح أو غيره هو سقف الرواية فالطيب صالح هو أحد الرواد بلا شك وهو أيقونة ضخمة من أيقونات الرواية العربية لكن المشهد الروائي الحديث يقول لنا إن هناك عظماء كثيرين من الروائيين السودانيين يكتبون في زمانهم مثل ما كتب الطيب صالح في زمانه أو ربما يتفوقون.
لماذا اخترت التاريخ إطاراً روائياً لأعمالك؟
عندي مشروع روائي ثقافي معرفي أريد أن أقدمه للعالم فقد رأيت عزوف شباب اليوم عن قراءة تاريخهم وحضاراتهم فوجدت أن أنسب الوسائل لربط الأجيال الحديثة بتاريخنا القديم وحضاراتنا يكون عبر كتابة الرواية التي يحبها الشباب وتجمع بين الخيال والحقيقة في وعاء واحد فتقدم الحقائق التاريخية لهذه الأجيال مغلفة بجرعة الخيال الذي لا يطغى على الحقائق حتى لا تشوِّه الرواية، أويذهب بجمالها وبهائها وإنما يتسرب خلالها كالماء الذي يروي الزرع. والجديد في مشروعي هذا هو أنه يأخذ وظيفة الأدب إلى توثيق التاريخ المحلي عن طريق السرد الأدبي بشكل يتداخل فيه الأدب مع التاريخ والبعد الإنساني معاً.
عالمك الروائي ينهض على أرض الفكر وليس التجربة الوجودية الحياتية المباشرة؟
بكل تأكيد فحين يكتب كثيرون منطلقين من تجاربهم الحياتية وإسقاطاتهم لمغامراتهم الشخصية والنفسية أقوم ببناء عالمي على مشروع فكري محدد الأهداف والمنطلقات عبر كتابة روايات معرفية تجمع بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي والعجائب وتقدم أنموذجاً شاخصاً للرواية المعرفية كجنس أدبي متفرد بحضوره السردي، على طريقة عمر فضل الله التي توظف الرواية لتعكس لنا عالماً حقيقياً لكنه مسكون بالخيال، وتمثل تياراً من الواقعية السحرية التي تعتمد على العجائبية والخوارق ولكنها تبتعد بها عن عالم الكرامات والتصوف المعهود وتقدمها كموروث شعبي يعيد توظيف الحكايات الشعبية بفهم جديد عبر شخوص وأسماء ذكية تحترم ذكاء القاريء ووعي المجتمع الحديث. ولا بأس أيضاً من توظيف الأسطورة في إطار النسق المعرفي الكامن في المقولات الشعبية وحكايات التاريخ الشفاهي لنعود بها من كونها مجرد حكايات للتسلية والمتعة إلى كونها حكايات تؤيد التاريخ المحكي وتضيف لأدب الرواية وذلك من أجل إعادة تشكيل هوية معاصرة في زمن متحول ونقلها من خانة التصورات التاريخية الظرفية، إلى خانة الحكايات ذات الأصول التاريخية التي تقبل الدراسة والتمحيص وتتسق مع حقائق التاريخ.
الرواية الآن في كل ثقافات العالم المعاصر تحاول الخروج من عباءة السرد الكلاسيكي؟
الناس يحبون الجديد ويميلون للتجديد في شئون حياتهم، والرواية كأحد أنماط التعبير الأدبي لا تخرج على هذه القاعدة ولذا فالخروج عن عباءة السرد الكلاسيكي يكون مقبولاً في حال تمكن المؤلف من تجاوز عقدة الخصائص الفنية الروائية دون إخلال بجماليات السرد لكن قليلاً من الروائيين من يفلح حقيقة في الخروج عن مطلوبات الرواية التقليدية وخصائصها الفنية مثل الحبكة القائمة على التسلسل والترابط في البداية ثمّ الذروة ثمّ النهاية، واللغة النمطية، ثم يفلح بعد ذلك كله في تقديم رواية ناجحة ومشوقة يتكيء فيها على جماليات التفكك كبديل لجماليات الوحدة والتناغم، ويقودك عبر متاهات من السرد الجميل لتجد نفسك منساقاً إليه وتقدم عقلك طائعاً منقاداً واثقاً في المخرج ثم لا يخذلك فتجد أنه قد عبر بك إلى حيث يريد بعد أن يقوم بكسر مبدأ الإيهام بالواقعية، ويلغى منطق الخصائص الفنية للرواية ويوجد بنية لغوية جديدة ذات ملامح خاصة به ويكسر التسلسل الزمني، عبر الانحرافات السردية. قليل من ينجح في مثل هذه المغامرة.
الرواية الجديدة ليس لها نموذج جاهز .. هل هي قابلة للاختراع بوصفها شكلاً جمالياً؟
بكل تأكيد ففي ظني أنه قد انتهى عصر الرواية النمطية التقليدية في العالم فنحن نشهد بداية ميلاد نماذج جديدة للرواية تجعل النقاد والمختصين في علم دراسة الرواية يعيدون النظر في قوالب تنميط الرواية ويقبلون الجديد الذي يخرج على النماذج المعهودة وفي ظني أن القراء هم من يسهم في بلورة الأشكال الجمالية الجديدة وهم من يحكم لها أو عليها بإقبالهم عليها أو عزوفهم عنها.
تاريخ الرواية العالمية هو صراع بين المضمون والشكل؟
أو فلنقل هو تبادل للأدوار حيث يكمل بعضهما بعضاً وهو استعارة أحدهما لأكبر حيز ممكن في النص الروائي ولكن ليس بالضرورة على حساب الآخر وذلك لأن المساحات المخصصة لكل منهما ليست بالضرورة مساحات جامدة أو خطية فراغية لكنها مساحات مرنة وهو الأمر الذي يمنح كل رواية هويتها وتميزها ويمنح كل مؤلف بصمته في كتابة العمل الروائي. علماً أن هذا يختلف باختلاف لغة كتابة الرواية وبلدها.
لقد أسميت مشروعك (بالعرفانية) ماذا تعني؟
المعرفية أو العرفانية في أحد تعريفاتها اللغوية هي السرد نفسه فهي تشرح علاقة السرد كخطاب بالمعرفة كتجربة فآلية التخييل التي تعيد بناء التجربة النوعية وتسريدها من خلال نصٍّ تعاقُبيٍّ في الحبكة الروائية المتصلة تقوم بتحريك التاريخ وتقديمه للقاريء ليس باعتباره تجربة ماضية منقطعة، بل باعتباره فكرة دائمة التدفق شاخصة في الزمان وشاهدة على أحداثه من خلال الرواية المعرفية. وهنا تتجلى عبقرية المؤلف في سرد الحبكة الروائية التي تستعير أحداث الماضي وتخرجها من سياجها الموضوعي والزماني لتطلقها في فضاء الحاضر متكئة على إمكانات المؤلف المعرفية وتقنياته الكتابية، وملكته اللغوية، وتدمج كل ذلك في إشكالات الحاضر وهمومه وربط كل ذلك بأسئلة الهوية وثراء وتنوع مجتمعنا الحاضر. وأما القاريء فيأتي دوره في توقع صدق الحدث الروائي ليتحقق المعنى عنده منها، حتى لو جاءت الوقائع المحكية مفارقة لواقعه وفكره، إلا أنها تمثل ملامحَ من تاريخه الثقافي والحضاري، وتخاطب لاشعوره الجمعي. ولا يتأتّى هذا التخييل لأيّ كان، لأنه ليس شكليّا أكثر منه معرفيا وروحيا، إلا لسارد مقتدر ومتشبع بالتجربة وعارف بمضايقها، ومساربها فهو ينقلها ويخبر بها القارئ على النحو الذي يسمح له بفهمها وتذوّقها؛ ثُمّ هو يؤوّلها في حاضره بلا تعسُّف أو خلط. ولهذا أدخل في رواياتي العرفانية في حوار تخييلي مفتوح مع الشخوص الحقيقية للرواية التاريخية لأرسم صورة روائية تخييلية لكنها تقترب من الحقيقية لهؤلاء الشخوص بحيث تملأ كثيرا من الفراغات والفجوات بقدر ما يُقرّبهم من القراء حيث أقوم باستدعاء التاريخ وإعادة بنائه نصّيا على النحو الذي لا يصادم حقيقته على وجه الإمكان والاحتمال، ويجعل ذاكرة الحدث ضرورة من أجل الحاضر والمستقبل. باختصار أنا أقدم النّص الأدبي بأسلوب حكائي سردي منضبط بالمعايير الفنية للرواية، مما يسهل عبور المعرفة إلى القارئ من خلال النسق الأدبي المتجسد في الحكاية والسرد واستدعاء شخصيات تاريخية لها رمزيتها المعرفية التي تتصل بمرجعيات تاريخية أودينية عبر النص الروائي والذي قد يكون نصاً عجائبياً أحياناً ويتمحور حول شخصيات غير معقولة تقدم على أفعال عجائبية، خارقة للواقع الإنساني (كما في رواية أنفاس صليحة) وإذا كان النص العجائبي في السابق مقصود منه الإدهاش واستحضار عوالم جديدة ليست فلسفية فأنا أكتب روايات تجمع بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي والعجائب في ما يسمى الرواية المعرفية.
الرواية الآن أهي تقوم على التجربة الفكرية أم التخييل بدلاً عن تصوير الواقع مباشرة
معلوم أن التخييل هو كل تاريخ يُبنى على وقائع في عقل المؤلف أكثر منه على وقائع حقيقية وأن الشخوص التي يستحدثها المؤلف هي مجرد شخصيات خيالية أيضاً بيد أن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما هو في حالة آخر أعمالي (تشريقة المغربي) على سبيل المثال فقد أسستها على وقائع تاريخية مؤكدة، لكني أستغل فيها فراغات التاريخ وفجواته فأُدخل فيها شخصيات وأحداثاً مستوحاة من خيالي. وإذا كانت بعض الأحداث أو الشخصيات متخيّلة، فلا ينبغي بالقدر ذاته أن تكون غير حقيقية فعنصر التخييل في رواياتي مثلاً يسير جنباً إلى جنب في نسيجه السردي وسداه مع الحقيقة التاريخية. ومع أنني أقود القاريء عبر التخييل في عرض مادتي الحكائية لكنني لا أمنح الخيال الهيمنة الكاملة بل أجعل من الخيال مجرد عنصر مساعد فقط لتمكين الحقائق التاريخية في ذهن القاريء عبر السرد مع القدرة على مزج التخييل التاريخي، والعجائبي والذاتي مع الحقيقة التاريخية في نسيج متميز ينتج لنا الرواية المعرفية.
باختصار كيف تكون الرواية بنظرك؟
الرواية النموذجية هي كل إضافة جديدة في السرد تأخذ بألباب القاريء وتجبره على القراءة وتقدم له المتعة ليعيش فصولها عبر النّص الأدبي بأسلوب حكائي سردي سلس ومنضبط بالمعايير الفنية، مما يسهل عبور المعرفة إلى القارئ من خلال النسق الأدبي المتجسد في الحكاية والسرد وأيضاً تقدم الفائدة عبر موضوع يحكي تجربة حياتية وجودية أو حقيقة تاريخية أو حكمة أو عبرة وفي الوقت نفسه يكون جميلاً ألا تخرج الرواية عن المطلوبات والخصائص الفنية مثل الحبكة القائمة على التسلسل والترابط في البداية ثمّ الذروة ثمّ النهاية، مع اللغة الجميلة والأسلوب المبتكر.