متعة القراءة وأفضل الروايات مع عمر فضل الله


كتاب الأستاذ صلاح عمر الشيخ:
طالت (الحبسة). الالتزام ضروري وصعب جداً. كان لابد من الاستفادة من الوقت والعودة للقراءة التي لم تعد كما كانت قبل انتشار الانترنت الذى سهل علينا كثيراً وتدفقت المعلومات بسهولة ويسر. العالم كله أصبح أمامنا عبر جهاز صغير، لو قيل لنا فى السبعينات إن ذلك سيحدث لاعتبرناه خيالاً علمياً غير ممكن.

متعة القراءة أصبحت ممكنة في أي وقت، إلا أن متعة البحث عن كتاب في معارض الكتب والمكتبات لم تعد جاذبة.والبقاء فى البيت أتاح لنا العودة للقراءة،

أفضل الروايات:
========
خلال هذه الفترة التي تجاوزت الشهرين قرأت العديد من الروايات لكتاب نعشقهم ولا نمل إعادة قراءتها: الطيب صالح، غابريل غاريسا ماركيز.

توقفت عند سلاطين باشا والسيف والنار واكتشفت كتاب جدد: عبد العزيز بركة ساكن فى امرأة من كمبو كديس، وحجي جابر الكاتب الارتري فى سمراويت.

أما صديقي الدكتور عمر فضل الله ذلك الروائى الرائع القادم بقوة والحاصل على جوائز قيمة جائزة الطيب صالح و كتارا عن راويته أنفاس صليحة وتشريقة المغربى، فقد قرأت كل ما أنتج وهى: ترجمان الملك، وتشريقة المغربي، وأنفاس صليحة، ونيلوفوبيا، ورؤيا عائشة، وفى انتظار القطار، وأطياف الكون الاخر.

دكتور عمر فضل الله كاتب بارع يمكن أن يكون امتدادا وخليفة الطيب صالح لأسلوبه السلس وعباراته الرشيقة. يتميز فى سرده الروائي الممتع باستدعائه للتاريخ، فهو كما نقول بالعامية (حكاي) يجذبك كما الحبوبات زمان لحكاياته والتى يحول فيها الأحداث التاريخية إلى رواية ممتعة وشخصيات حية تعيش معها الحكاية والأحداث لحظة بلحظة ولن تترك الكتاب إلا حينما تنتهى الحكاية.

أهم ما يلفت النظر لروايته هو تعريف القارئ العربي بالتاريخ السوداني خاصة الممالك السودانية الاسلامية سنار والعبدلاب وعلوة المسيحية ومعالجة الأحداث من وجهة نظر سودانية. وفى رؤيا عائشة أحداث المهدية. وكما أشرت المعالجة والسرد يعالج أخطاء فى الروايات المكتوبة من أجانب في التاريخ السوداني مثل السيف والنار وحرب النهر.

أما روايته أطياف الكون الآخر فهي محاولة جريئة لدخول عالم الجن وتقريب الصورة من الخيال والأساطير إلى قصص القرآن وحقيقة هذا العالم الآخر. وأما نيلوفوبيا فهي سرد لمأساة غرق الباخرة النيلية العاشر من رمضان في مصر بذات الاسلوب الشيق فى السرد والحكاية.

هذه انطباعات سريعة عن روايات الدكتور عمر فضل غزير الإنتاج الذي حبب لنا جزءاً من تاريخنا وأعاد كتابته بشكلٍ روائي ليصحح أخطاء تاريخية انتشرت خاصة عند القاريء العربي.

صلاح عمر الشيخ.

نيلوفوبيا لعمر فضل الله – بقلم نهى عاصم


رواية نيلوفوبيا للدكتور عمر فضل الله

أسى أصاب عزو حينما كان سبباً -كما اعتقد دومًا – في غرق صديق الطفولة صلاح.. بكى عزو في نفسه وجلد روحه كثيرً وتحول إلى شخصية شريرة أرهقت الأطفال وأزعجت الأمهات فكان نصيبه يوميًا من العقاب في المدرسة .. ثم ترك عزو المدرسة عائدًا إلى خلوة القرإن التي هجرها قبلًا ثم التحق بالمدرسة المتوسطة وصادق أولاد من بلاد لا نيل بها وابتعد عن أبناء بلدته.. وفي الثانوية امتهن عزو لعبة السياسة والمظاهرات وتعرف على شاب به من روح صديقه القديم صلاح فتحول من مرحلة الشغب مع الطلاب إلى مرحلة الهتاف في وجه رئيس البلاد والخروج في المظاهرات ضد النظام .. موت صلاح قتل طفولة عزو الذي أخذ يحلم في مراهقته بعودته لبراءة الطفولة مثله مثل أطفال العيلفون ولكن أنى للأحلام أن تتحقق! يحكي لنا الكاتب على لسان عزو جمال قرية العيلفون : بيوتها ، تاريخها ، أسواقها ، ألقاب أفرادها التي التصقت بهم منذ الطفولة وظلت معهم ..وكذلك يحكي عن الحركات السياسية التي كانت في السودان في زمن الرئيس نميري.. وما أشبه السودان بمصر فهم يفخرون ويتباكون على العظام وليتهم يحاولوا أن يكونوا نصفهم.. يتحدث الكاتب عن مشكلات أزلية في مجتمعنا مثل عدم محاولة الزوج اشعر زوجته بحبه لها وهو الذي يحبها كثيرا ولكن هكذا هي مجتمعاتنا العربية .. ومثل تأخر سن زواج الفتيات .. وفي النهاية تنتهي مخاوف عزو من النيل ويهزم هواجس النيلوفوبيا بمأساة أبكتني كثيرًا وعشتها بقلبي وروحي وكأنها واقع وليست بخيال مؤلفها .. شكرًا دكتور عمر .. #نو_ها

رواية عمر فضل الله: نيلوفوبيا موسوعة اجتماعية نفسية تاريخية – بقلم السيد الراعي


الدكتور/ عمر فضل الله
رواية ” نيلوفوبيا ”
الصادرة عن دار مدارات للطباعة والنشر والتوزيع / الخرطوم
الروائي العربي السوداني
الحائز على جائز الطيب صالح العالمية في الرواية
الرواية موسوعة اجتماعية نفسية تاريخية، أبدع فيها الكاتب الدكتور عمر فضل الله في رسم الشخصيات بتسلسل منطقي بديع تحس فيه بالتلقائية والعذوبة، ظهرت فيه كل شخصية في موعدها تماما موظفة توظيفا دراميا محكما.
بطل الرواية عبد العزيز من مدينة العيلفون السودانية علي ضفاف النيل، يغرق فيه صديقه صلاح جراء تصرف طائش من تصرفات الطفولة، وتصيب عبد العزيز بطلَ الرواية عقدةُ الخوف من النيل، ويؤدي ذلك إلي التأثير السلبي على شخصيته، ويعيش طوال حياته تطارده هذه العقدة، وتحوّل من طفل مسالم هادئ إلي طفل عدواني وسط قرنائه، وكأنه كان يريد أن ينتقم من كل شيء حزنا على صديقه بهذا السلوك، وتيأس أمه من إصلاحه، ثم يُوجَّه لحفظ القرآن الكريم فيختمه ويتقنه؛ وينضبط سلوكه ربما بسبب ما سكن في جوفه من كتاب الله، فأضفى عليه السكينة والهدوء.
تفوق جدا في الرياضيات حتى أصبح يجد ذاتَه في التفاف زملائه حوله ليحل لهم ما صعب من المسائل الرياضية حتى إن أصعب المسائل التي لا يحلها يصعب على مدرس المادة نفسه حلها .
وصف الكاتب الحالة الاجتماعية والسياسية في عهد النميري وصفا دقيقا ببساطة غير مخلة بالتاريخ، تفاعل عبد العزيز مع كل الحركات السياسية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها .
يصف الكاتب “العيلفون” بالمجتمع المليء بالتناقضات ولكنه مجتمع مترابط حين يفرح تعمه كله مظاهر الفرح ووقت الحزن تجزم أن هؤلاء هم ورثة الحياة الآخرة، فيقول: “غير أن العيلفون كما هي قرية صغيرة منزوية في ركن قصي من النيل تندب حظها وتبكي على ماضيها وتتحسر على غضب النميري عليها، فهي لم تشهد تطورا ولا عمرانا ولا نماء بل ازداد الفقراء فقرا، وانحسر الغنى عن الأغنياء والحال تبدلت والبلد أُفقرت والناس هاجروا إلى دول الخليج يطلبون لقمة العيش، تركوا أسرهم وأبناءهم واغتربوا،….. الهجرة فصلتهم عن مجتمعهم وتركت وراءهم أسرا مفككة بلا راعٍ ولا مربٍ ولا وازع، حين تنشأ الأسرة بعيدا عن الأب والزوج والأخ الكبير تنحل القيم وتتعقد المشكلات وتنفصم العرى وتنشأ أجيال من الشباب غير معتمدة على أنفسها، أجيال تنتظر آخر الشهر حيث يرسل الأب التحويلات والمصاريف والثياب والشنط “.
تراكم معرفي كبير بدا من خلال سرده في الرواية يقول: “وأصبحنا نجتمع لنقرأ أشعار السياب ونزار قباني وإيليا أبو ماضي والفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المهدي المجذوب”.
ويقول: “وغالبا ما أكون أقرأ قصة بداية الربيع أو النبع المر أو كلاب القرية أو القفز فوق الحائط القصير لأبي بكر خالد أو لا تطفئ الشمس لإحسان عبد القدوس وغيرها من القصص التي كنت أنهمك في قراءتها وأنا في انتظار الغداء” .
لمس كاتبنا بطريقة حانية شعور البنت التي تأخرت في الزواج يقول بالعامية السودانية على لسانها: “وفي كل مناسبة زواج أو حفلة عرس أمشي ليها، النسوان يعملن نفسهن حكيمات وناصحات فوق راسي. لييه ما اتزوجتِ؟ ولي شنو ما قبلتِ فلان؟ وما في شيء اسمه عريس تفصيلة على مزاجك، وكلام كتير يجرح ، لدرجة أني في مرة وفي حفل خطوبة كنت قاعدة مع بنات عماتي وكلهن يا إما معرسات أو مخطوبات وهن طبعا أصغر مني وأنا كنت خلاص قفلت التلاتين، قعدن يقولن لي شوفي فلانة أصغر منك بعشرة سنوات وتزوجت وأنت لسة ما مخطوبة وما معرسة مستنية شنو؟ – قررت في اللحظة ديك أكون قوية وقلت ليهن والله من كل قلبي زي ما ربنا رزقكم ورزقها بزواج وفرحة أكيد ربنا بيفرحني في يوم من الأيام ”
تخرج عبد العزيز من الجامعة وبدأ رحلة البحث عن عمل ، يقول: “فمن يبحث عن الوظيفة في الخرطوم كمن يبحث عن التعليم في الجامعة لا يجدهما أبدا” ، يتسلم وظيفته كمدرس للرياضيات في “ثانوية الجريف للبنات” ، ويتزوج إحدى مدرساتها، ويسوقه القدر لأن يكون منظما لرحلة لعدد من بنات المدرسة إلى مصر.
يستعرض الكاتب بسلاسة وعذوبة خلال مصاحبته للرحلة بالقطار المعالم والمسافات والمدن والمحطات وحتى ما يقابلونه في هذه الرحلة من البائعات فيقول: ” وأنهم في هذه المحطات النائية يستاهلون أن تعطيهم كل ما عندك عن رضى نفس وطيب خاطر وأنت تعلم أن وراء هذه البائعة النحيفة المرهقة التي أضناها الركض وهي تجري حافية الأقدام بجوار عربات القطار أطفالا صغارا ينتظرون عودة أمهم ببعض قروش لمصاريف البيت أو أبا شيخا كبيرا أقعدته السن عن طلب الكدح في طلب الرزق”
ومن وادي حلفا بالباخرة إلى أسوان عبر بحيرة النوبة يستعرض باستفاضة كل المعالم الأثرية والسياحية، ثم إلى القاهرة والأهرامات وأبو الهول والمتحف المصري والقلعة والسيدة والأزهر وخان الخليلي ومعالم القاهرة وزحمتها وليلها الذي لا ينام وناسها وعاداتهم وقهوة الفيشاوي التي سعدت بنجيب محفوظ كرائد من روادها فخلدها في تاريخ مصر والعرب .
وفي رحلة العودة عبر بحيرة النوبة في الباخرة عشرة رمضان يتجمع العائدون إلى السودان من مسافرين من أضاء الرحلة من منظمين وطالبات ليبلغ عددهم حولي سبعمائة وخمسين شخصا، ومعهم كميات كبيرة من المحروقات بمختلف أنواعها تتعرض الباخر إلى حريق هائل قيل إنه قد يكون بسبب مجموعة إرهابية أرسلها القذافي لإفساد العلاقة بين السودان ومصر فأطلقوا عليها قذائف “الآر بي جيه” فتحولت إلى كتلة من النيران كأنها ساحة حرب، وتحول الركاب الذين كانوا بجوار براميل المحروقات إلى أشلاء متناثرة من اللحم والعظم، وساد الهرج والمرج في السفينة واحترقت أيضا معظم قوارب النجاة، ومن قفز إلى النهر تلقته تماسيح البحرية الجائعة، ومن تمكن منهم من الوصل إلى البر تلقفته العقارب التي كانت منتشرة بالملايين، ثم بعد ذلك افترستهم الذئاب، فلم ينج من هذا الحدث الجلل سوى أقل القليل، ويلقى عبد العزيز حتفه في النيل أيضا بعد قصة مقاومة عنيدة مع النار والموت والنيل .
ويدهشك الكاتب بأن عبد العزيز بطل هذه الرواية ما زال يروي أحداث تلك المأساة مع أنه قد لقي حتفه بأسلوب شيق لم يكتشفه المتلقي إلا في سطور النهاية، فتعود مرة أخرى وتعيد التدقيق لتري متي فقد هذا البطل حياته ، ويتضح أنه واصل رواية المأساة بروحه بعد أن فقد جسده هذه الروح، وهي تهيم حول الأماكن والشوارع والزوجة والأهل وصيوانات العزاء.
وفي عتابه مع النيل لماذا غرق فيه كل هؤلاء على مدار التاريخ يقول النيل: قيل لي: كن ، فكنت ، وأمرت بالجريان فجريت ، أهب الحياة بإذن الله لهذه الرقعة، حول شواطئي تقوم الحضارات وتسقط، والناس يحيون ويموتون، والقرى تنمو وتندثر، أسير بقدر وأفيض بقدر وأغيض بقدر. سريت حين لم تكن ممالك أو دول أو شعوب ، وسريت بعد أن قامت الحضارات وازدهرت. كنت محضنا لضحية النيل عند الوثنيين على مدار القرون ولم تؤد تلك الضحايا إلى أن أفيض أو أغيض. كنت مهدا لنبي الله موسى نبي التوحيد أحنو عليه وأدفعه تجاه قصر الفرعون , وامرأة فرعون وجدته طافيا فوقي فأطلقت عليه اسم ابن الماء ، يعني أن موسى هو ابني فأي شرف تريد أكثر من هذا , وكم من عاشق هام في حب النيل وكم من شاعر تغني للنيل ؟ وكم من القصائد صيغت في مدحه ؟
فإن كنت أنت تهابني فالملايين غيرك يهيمون في شواطئي ومياهي …..
تحاياي الكبيرة للدكتور عمر فضل الله ، التي مهما كبرت فلن تبلغ قدره العظيم الذي أعاشنا على ضفاف النيل واهب الحياة بإذن الله

عندما تكون القراءة متعة – رواية نيلوفوبيا للكاتب الروائي المبدع الدكتور عمر فضل الله


الدكتور عبد الرحيم درويش

عندما تكون القراءة متعة
رواية نيلوفوبيا (١)
للكاتب الروائي المبدع
الدكتور عمر فضل الله
فطرتنا الإنسانية السوية تستمتع بالحكي وتشبع رغباتها بمعرفة ما حدث وما يحدث وماذا سيحدث. غريزة بشرية لتقفي الأثر ومعرفة كيف يعيش الآخرون.
حب الاستطلاع ومتابعة الشخصيات في رحلة حياتها المليئة بالدموع والأفراح والأتراح والغوص معهم في بحار الحياة وسبر أغوار النفس البشرية ومعايشة الشخصيات عن طريق خلقها فتراها وكأنها من لحم ودم، تتحرك أمامك، تتأمل وتتأمل، تحب وتكره، تقبل وترفض، تتكلم وتصمت، تناور وتحاور.
شخصية بطل الرواية تراجيدية بامتياز، تراها في كل بلد عربي ترفض الواقع وتأمل لمستقبل أفضل. تحب وتأمل، تتألم ولا تقنع. تري واقعا سيئا، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تغيره.
لما كان طفلا كان شقيا، لا لخلل فيه، وإنما لنمو نوازع الرفض للفقر والخنوع والضياع السياسي ومحاولة تغيير الواقع، ولكنه مع كل هذا شقي ببراءة، وسرعان ما ينصلح حاله.
ريشة فنان عبقري تري فيها كل عناصر الصورة بلا ضبابية ولا رتوش تجملها، حيث تشم رائحة الفقر والرفض والعناد لصبي عربي رافض لكل ما حوله.
رافض للضعف السياسي والفقر المدقع أملا في يوتوبيا أفضل.
ومع أنه سباح ماهر يموت رفيقه فيخاف النيل.
النيل رمز الحياة والأمل. يكرهه ويصير مأساته.
كل عناصر الصورة تتناغم مع حبكة درامية ببناء سردي سلس يتخلله حوار في غاية الجمال، ينفخ فيها فنان يجيد جعل القارئ يحبس أنفاسه لكل لحظة ويترقب ويتفرج مستمتعا.
أديب بارع بأسلوب متميز فرضه لنفسه، حيث لا يقبل التشابه ويتمرد علي البناء الأرسطي ويشيد بناء يبدأ فيه كلما اتخذ مكانه في بداية كتابته للرواية خلف مكتبه قائلا:
اللهم إني كاتب سأشدك معي أيها القارئ رغما عنك لتعيش متعة القراءة وسأستمتع معك لأننا في قارب واحد وبيئة واحدة قوامها الصدق وترابها الواقعية وعطرها المحلية وطعمها الإبداع.
ومن هنا تأتي عبقرية مدرسة عمر فضل الله، حيث ينجح لا في أن يريك شخصياته، وإنما ينجح في كشفك أمام ذاتك وتعرية روحك البشرية لتعيش في عالم من الطوباية وترحل معه في رحلة لا يجيد حكايتها غيره، لأنك تعيش عالمية الإبداع بروح مغرقة في المحلية، حتي في حوار الشخصيات ولباسها وسلوكها.
يأخذك الكاتب رويدا رويدا لتحلق بعيدا بعيدا في عالم الخيال والرومانسية والحب، إلي عالم الخير والحق والجمال بعد أن يغمسك في مستنقعات الواقع..

نيلوفوبيا (٢)

المتأمل في معظم أعماله تصيبه دهشة عظيمة عندما ينتهي من القراءة ويود أن يصفق إعجابا ويتساءل بانبهار:
كيف أمكنه أن يكتب هذا العمل العبقري؟!
سمة تميز أعمال عمر فضل الله:
يبدأ روايته من قلب المحلية فتشعر بالسودان وأهلها وتحس بأنك تري تاريخ هذا البلد العظيم، وبالرغم من إغراقه في المحلية، إلا أنه ينهي الرواية بشكل أقرب إلي العالمية، فيجذبك إلي الناحية الإنسانية التي تري الضعف البشري فيها مطلا برأسه حيث الألم والدموع والقهر…

uرواية نيلوفوبيا نموذجا…
قلم رائع وأديب مبدع ورواية عبقرية، والملفت للنظر أن الكاتب في هذه الرواية كشف قليلا وأخفي كثيرا تحت غطاء كلماته الموحية المؤلمة فتجد حقيقة أمورا كثيرة مسكوت عنها في النص.
عبقرية نيلوفوبيا تتجلي في أن الكاتب قال كثيرا برغم من أن كلمات الرواية وصفحاتها قليلة، إلا أنه ألهمك كثيرا بما أضفاه علي الرواية وخصوصا في الجزء الأخير من أهوال ورعب وفزع يجعلك تبكي كل شخصيات القصة وتتساءل في هلع:
هل ما أقرأ حقيقة أم خيال؟!
رواية يتجلي فيه الضعف البشري أمام عظمة الطبيعة وإرادة الخالق!!
باختصار إنها رواية عالمية بأسلوب مغرق في المحلية مع بطل تجد له أكثر من نظير في ظل أنظمة عربية مقهورة مقموعة…
تحياتي لنيلوفوبيا ألف مرة وخالص شكري وتقديري عشرات الآلاف من المرات لمبدعها الكاتب الملتزم المهموم بقضايا وطنه وأمته والمدافع عن آمالها والسارد لآلامها والمبشر بأنوار الأمل لأجيال من البسطاء الضعفاء المهمشين في عالم عربي عظيم يتم إهمالهم والتنكيل بأحلامهم علي الرغم من قدراتهم اللانهائية وحقهم في العيش بحياة أفضل بكثير من واقعهم الأليم بالرغم من امتلاكهم لمقومات هذه الحياة التي يستحقونها…

عندما تكون القراءة متعة – رواية نيلوفوبيا


عندما تكون القراءة متعة
رواية نيلوفوبيا (١)
للكاتب الروائي المبدع
الدكتور عمر فضل الله
عمر فضل الله

فطرتنا الإنسانية السوية تستمتع بالحكي وتشبع رغباتها بمعرفة ما حدث وما يحدث وماذا سيحدث. غريزة بشرية لتقفي الأثر ومعرفة كيف يعيش الآخرون.
حب الاستطلاع ومتابعة الشخصيات في رحلة حياتها المليئة بالدموع والأفراح والأتراح والغوص معهم في بحار الحياة وسبر أغوار النفس البشرية ومعايشة الشخصيات عن طريق خلقها فتراها وكأنها من لحم ودم، تتحرك أمامك، تتأمل وتتأمل، تحب وتكره، تقبل وترفض، تتكلم وتصمت، تناور وتحاور.
شخصية بطل الرواية تراجيدية بامتياز، تراها في كل بلد عربي ترفض الواقع وتأمل لمستقبل أفضل. تحب وتأمل، تتألم ولا تقنع. تري واقعا سيئا، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تغيره.
لما كان طفلا كان شقيا، لا لخلل فيه، وإنما لنمو نوازع الرفض للفقر والخنوع والضياع السياسي ومحاولة تغيير الواقع، ولكنه مع كل هذا شقي ببراءة، وسرعان ما ينصلح حاله.
ريشة فنان عبقري تري فيها كل عناصر الصورة بلا ضبابية ولا رتوش تجملها، حيث تشم رائحة الفقر والرفض والعناد لصبي عربي رافض لكل ما حوله.
رافض للضعف السياسي والفقر المدقع أملا في يوتوبيا أفضل.
ومع أنه سباح ماهر يموت رفيقه فيخاف النيل.
النيل رمز الحياة والأمل. يكرهه ويصير مأساته.
كل عناصر الصورة تتناغم مع حبكة درامية ببناء سردي سلس يتخلله حوار في غاية الجمال، ينفخ فيها فنان يجيد جعل القارئ يحبس أنفاسه لكل لحظة ويترقب ويتفرج مستمتعا.
أديب بارع بأسلوب متميز فرضه لنفسه، حيث لا يقبل التشابه ويتمرد علي البناء الأرسطي ويشيد بناء يبدأ فيه كلما اتخذ مكانه في بداية كتابته للرواية خلف مكتبه قائلا: 
اللهم إني كاتب سأشدك معي أيها القارئ رغما عنك لتعيش متعة القراءة وسأستمتع معك لأننا في قارب واحد وبيئة واحدة قوامها الصدق وترابها الواقعية وعطرها المحلية وطعمها الإبداع.
ومن هنا تأتي عبقرية مدرسة عمر فضل الله، حيث ينجح لا في أن يريك شخصياته، وإنما ينجح في كشفك أمام ذاتك وتعرية روحك البشرية لتعيش في عالم من الطوباية وترحل معه في رحلة لا يجيد حكايتها غيره، لأنك تعيش عالمية الإبداع بروح مغرقة في المحلية، حتي في حوار الشخصيات ولباسها وسلوكها.
يأخذك الكاتب رويدا رويدا لتحلق بعيدا بعيدا في عالم الخيال والرومانسية والحب، إلي عالم الخير والحق والجمال بعد أن يغمسك في مستنقعات الواقع..
الأستاذ الدكتور عبد الرحيم درويش.

مقتطفات من رواية نيلوفوبيا – عمر فضل الله: الجنازة


4حفيف المعاول وهي تحفر القبر يهمس لي بأنني السبب في موت صلاح ويتوعدني بنفس المصير. الذين نزلوا داخل اللحد اختفوا عن الأعين يحفرون وأنظر فلا أرى إلا رؤوس (الأجَمَات) والمعاول و(الكواريق) تظهر وتختفي والتراب يطير من داخل اللحد في الهواء ليستقر على جوانب القبر ويؤكد لي موت صلاح. العيلفون كلها اصطفت خلف شيخ الزين إمام مسجد الشيخ ادريس لصلاة الجنازة في ذلك اليوم. ربما اصطفوا ليقدموا التحية لصلاح أو ليعتذروا أنهم لم ينقذوه من النيل. كان في كفنه الأبيض نائماً لم يستيقظ ليقف مع المصلين. وأنا لم أقف معهم ولكنني ذهبت لأنظر داخل القبر. اللحد المحفور فغر فمه وكاد يبتلعني. وحين أجفلتُ همس لي أنه سيأخذ صلاح بدلاً مني حالياً ولكنه لا يطيق الانتظار ليأخذني أيضاً. وسيكون ذلك قريباً جداً. أقرب مما أتصور. وهو الآن مشتاق ليضم صلاح ولو استطاع لزحف نحو الجنازة فأخذها ثم أغلق عليها إلى الأبد. عيون الموتى كانت تخرج من تلك القبور وتحدق فينا من كل مكان، تبحث عني وتتربص بي، وأكفان الأطفال الموتى تطاردني. وتسألني متعجبة كيف لم أمنعه من الذهاب للنيل؟ وأنا الذي ما كنت أعلم أنه سوف يفعلها. ذهب ليلعب مع النيل ولم يكن يدري أن النيل ليس له صديق ولا يحب الأصدقاء. يا أيها الموتى أسألكم بالله هل القبر الذي سيضمه ضمة أبدية أرأف به أم النيل الذي كتم أنفاسه وأخذ روحه وكاد يأخذه ويذهب به عبر البلاد ثم لا يعود؟ اشتهت روحي البائسة أن تتبادل الأمكنة مع روحه المطمئنة ولو قليلاً حتى يسكن رَوْعي ويعود قلبي لمستقره داخل تلك الضلوع. أتمنى أن أُدْفَنَ معه في جوف هذا القبر ولو يوماً واحداً. أرجوك أيها القبر ضمني إليك مع صلاح ثم أغلق أبوابك ولا تفتح لأي طارق أبداً.

شيخ الزين رفع يديه وكبر التكبيرة الأولى لصلاة الجنازة وأنا ركضت وتمددت جوار صلاح على النعش. شيخ الزين نظر إلينا ولم يقطع صلاته. رأيت دمعتين تستبقان على خديه لما رآني ممدداً بجوار الجنازة. نظر إلى الأرض وأكمل. الدمعتان تحدرتا فوق لحيته وتسربتا إلى ذقنه وعنقه وتغير صوته فأصبح مثل أنين المصاب بالحمى حين نطق التكبيرات الثلاث الباقية. والتكبيرات خرجت من جوفه وليس من لسانه. نطقها ولكن بفؤاده والمصلون خلفه رددوها بأفئدتهم التي أخذت تختلج وتهتز. عم حسن كان واقفاً مصطفاً خلف الإمام. نظر إلى جنازة صلاح والناس يصلون عليها. ضربته صاعقة الحزن وذاق جسده رجفة المذبوح. دموعه لم تطق انتظار التكبيرات كلها. ما الذي يجعلها تنتظر؟ وبعضهم قطع الصلاة وأسرع نحوي ليبعدني من الجنازة وأنا تشبثت بها حتى كدت أنزع الكفن من جسد صلاح. وأبعدوني رغماً عني. البصير كان قوياً فحملني بين يديه ورغم أنني عضضته حتى سال الدم من يده إلا أنه لم يتركني وأبعدني عن الجنازة. القبر قوَّسَ ظهره الترابي فوق صلاح كأنه يغار عليه ويخشى أن نحفر فنستعيده. والريح شاركت العيلفون البكاء تحت شجرة السيال وقمرية ناحت قليلاً على الغصن وخنقتها عبرة الحزن فأخرستها، ثم حلقت فوقنا وصفقت بجناحيها ولطمت وهي تغادر المكان، ربما لتبكي حيث لا يسمعها أحد. النساء لا يخرجن مع الجنازة في قريتنا وأمي لم تكن معنا ولم تر ما فعله عم حسن. حين تلفت باحثاً بالغريزة عن ابنه صلاح ليضمه فلم يجده جاء فحملني بين يديه وضمني بقوة. ذراعاه القويتان أوجعتاني لكن دموعه على وجهي وعنقي أوجعتني أكثر وفَطَرَت فؤادي. تلك الدموع بقيت الدهر كله تؤرقني وتفري كبدي. كان صلاح هو وحيده الذي أنجبه عند الكبر. ولكن صلاح ذهب مسرعاً. وعم حسن بحث عن ابنه ليضمه بين ذراعيه وحين لم يجده بكى عليه بصوته العميق المفجوع الممتليء حزناً حتى فقد بصره. رأيته بعد ذلك يمشي ويتخبط في الطرقات على غير هدى وهو يستكشف ما أمامه بعكازته يحركها يميناً وشمالاً حين يسير. كانت طرقات عكازته على الأرض تقول لي أنت السبب! أنت السبب.! أنت فجعتني في ولدي.. كنت إذا رأيت عم حسن يسير في الطريق أفر هارباً وتضطرم أوصالي خوفاً وندماً وأبحث عن البكاء ليريحني فلا أجده.

صدور رواية نيلوفوبيا


Backgroundd

 



صدرت عن دار مدارات للنشر رواية نيلوفوبيا. وهي رواية واقعية تحكي قصة مأساة غرق الباخرة العاشر من رمضان في بحيرة النوبة بشمال السودان وجنوب مصر وعلى متنها 60 طالبة من ثانوية الجريف شرق ومعهن إدارة المدرسة في ثمانينيات القرن الماضي. تدور أحداث الرواية في “العيلفون” تلك القرية التاريخية التي تعتبر أنموذجاً حياً وشاخصاً لأنماط الحياة في القرى السودانية في تلك الفترة.
نيلوفوبيا تحكي قصة حياة أحد الشباب والمؤثرات الاجتماعية التي شكلت شخصيته وحادث غرق صديق الطفولة الذي أوجد في نفسه رهاب النيل وظل ملازماً له طوال حياته كما تقدم وصفاً واقعياً لحياة الطفولة في تلك المنطقة وجوانب من الحياة الطلابية والمدرسية والحياة السياسية والتاريخية للمنطقة وتربطها بحاضر وحياة سكانها.
كما تضمنت الرواية وصف الرحلة بالقطار من الخرطوم إلى مصر وجوانب الحياة الاجتماعية في منطقة شمال السودان وارتباط تلك القرى والمدن بالسكة الحديد والمسافرين كما وصفت بعض الأماكن التاريخية والأثرية في القاهرة وجنوب مصر ووصفت في مشاهد مروعة حادث غرق الباخرة وما تلاه من أحداث. الرواية مليئة بالجوانب الإنسانية في لغة شاعرة وأحداث متتابعة تشد القاريء.

عم “حميد” الحَوَّاتي!


cover1فكرت في أحيان كثيرة أن ألقي بنفسي في الماء لأكون مع صلاح وأرى كيف هي حاله الآن ولكنني جبنت ولم أستطع. كنت أعلم أنني سأغرق وأموت. ففي وقت الدميرة الكل يغرق. ورغم ذلك بقيت أذهب كل يوم ولم أتوقف عن الذهاب للنيل وأبقى هناك حتى بعد أن ضبطني عم «حميد» الحواتي جالساً عند الضفة. عم «حميد» جاء يمشي على الرمال ولم أسمع صوت أقدامه. فاجأني وأمسك بي ولم أقاوم وبقيت صامتاً. ربط يدي خلف ظهري كى لا أقاوم وقيدني من قدمي إلى شجرة السيال الشامخة عند ضفة النيل حتى لا أهرب منه. تناول غصناً فقطعه وصنع منه سوطاً. نظراتي إليه كانت شيئاً يشبه نظرات عنزنا الحلوب (مبيريكة) التي ذبحها أبي للضيوف ونحن صغار. (مبيريكة) كانت تعرف أنه سيذبحها ولكنها رغم ذلك وقفت ولم تهرب وكانت تنظر في عينيه وهو يمر السكين ليقطع أوداجها ويسيل دمها. وأنا أيضاً قررت ألا أهرب فهي ليست أشجع مني. ضربني عم «حميد» وضربني حتى تعب وتقطع السوط في يده. وتمزقت ملابسي وظهرت الآثار السوداء على ظهري ومؤخرتي وتورمت رجلاي. كنت أئن من ألم الضرب ولكنني ما صحت ولا بكيت والأنين خرج من فمي رغماً عني ولو كنت أملك أن أكتمه لكتمته. عم«حميد» فاجأته صلابتي فتوقف عن الضرب وفك قيودي وأطلقني. لا بد أنه أصيب بالخذلان فقد توقع أن أبكي وأتوسل ليتوقف عن ضربي، ولكنني لم أفعل. مشيت متجلداً في كبرياء ناظراً إلى الأعلى رافعاً رأسي ولم ألتفت للوراء لأنظر إليه. عم«حميد» ضربني انتقاماً لكرامته المهدرة أو للمجهود الذي بذله حين كان يبحث عني عبثاً تحت الماء. ربما أصيب بالحرج لأنني جعلت منه أحمقاً كبيراً أو لأنني عرضته لخطر الغوص تحت الماء بحثاً عني في حين كان من الممكن أن أخرج من مخبئي وأخبرهم أنني حي وأنني لم أغرق.. ولكن لا أظن أن هذا هو السبب فع
م «حميد» قد أخرج جثة صلاح على أي حال. وكانوا سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً أن صلاح قد غرق حتى لو كنت خرجت من مخبئي وأخبرتهم. عم «حميد» لا يتقبل النقد بصدر رحب. وربما لو لم يكن عم «الجيلي» هو الذي انتقده في ذلك اليوم حين كان يغوص تحت الماء لخرج وتشاجر. ولكن عم «الجيلي» كان كريماً وكانت له يد بيضاء على عم «حميد» فقد سمعت أمي تحكي أنها رأت عم «الجيلي» – وهو جارنا- في مرات كثيرة يعطي عم «حميد» النقود في الخفاء. ثم قالت: (أكرم الفم تستحي العين!). تذكرت أن عم «حميد» تزوج مرات عديدة ولم ينجب وأنفق ماله كله على الزواج والعلاج. كان غاضباً من كل أحد وحتى من نفسه. تخيلت الآن لماذا ضربني عم «حميد». وأحسست بارتياح عميق ونسيت الأمر.

وصلت البيت ودخلت خلسة ولم أخبر أحداً. أبي كان مسافراً وأمي اكتشفت آثار الضرب بعد يومين فقد كنت حريصاً ألا تراني. وحين سألتني لم أرد عليها فأشفقت عليَّ وبقيت صامتة. كانت تظن أن العم حسن زوج بتول بنت ست الدور ووالد صلاح هو الذي ضربني. وأنا لم أخبرها ولم أخبر أحداً أن عم «حميد» هو الذي فعلها. كنت أشفق عليه رغم أنني أنا الذي كنت الضحية وكان هو الجلاد فقد كان في داخلي إحساس غامر بأنني انتصرت عليه وهزمته وأنه عاد إلى البيت منكسراً.


مقتطفات من رواية نيلوفوبيا


cover1أهديها للقراء في ذكرى غرق الباخرة العاشر من رمضان. وهي رواية واقعية تحكي قصة مأساة غرق الباخرة العاشر من رمضان في بحيرة النوبة بشمال السودان وجنوب مصر وعلى متنها ستون طالبة من ثانوية الجريف شرق ومعهن إدارة المدرسة في ثمانينيات القرن الماضي.
الرواية تتناول قصة حياة أحد الشباب “عبد العزيز عزو” والمؤثرات الاجتماعية التي شكلت شخصيته وحادث غرق صديق الطفولة الذي أوجد في نفسه رهاب النيل وظل ملازماً له طوال حياته كما تقدم وصفاً واقعياً لحياة الطفولة خلال الثمانينيات من القرن الماضي كما تسرد بعض الجوانب من الحياة الطلابية والمدرسية والحياة السياسية حيث تدور أحداث الرواية في “العيلفون” القرية التاريخية التي تعتبر أنموذجاً حياً وشاخصاً لأنماط الحياة في القرى السودانية في تلك الفترة. وتتناول الرواية بعض الجوانب التاريخية للمنطقة وتربطها بحاضر وحياة سكانها. الرواية تتضمن وصف الرحلة بالقطار من الخرطوم إلى مصر وتصف جوانب الحياة الاجتماعية في منطقة شمال السودان وارتباط تلك القرى والمدن بالسكة الحديد والمسافرين كما تصف بعض الأماكن التاريخية والأثرية في القاهرة وجنوب مصر وتصف في مشاهد مروعة حادث غرق الباخرة وما تلاه من أحداث. الرواية مليئة بالجوانب الإنسانية في لغة شاعرة وأحداث متتابعة تشد القاريء.

رحم الله شهداء الباخرة العاشر من رمضان.

=========================

مقتطف من أحد فصول الرواية:

=========================

حين يبدأ «عباس» في الكلام لا تملك إلا أن تستمع وتنتبه بكل جوارحك حتى لا يفوتك شيء. أستاذ «عباس» ليس معلماً للطالبات فقط بل كل هيئة التدريس بمدرسة الجريف شرق الثانوية للبنات تتعلم منه. وقد نشأ بيني وبينه نوع من الصداقة الغريبة. «عباس» حين يرآني يترك كل شيء مهما كان هاماً أو مستعجلاً ليجلس معي وكان وجهه يتهلل إشراقاً وتزداد تلك التغضنات التي على جانبي عينيه اتساعاً وكأنهما شوارب قط ملتصقة على صدغيه. وكانت تلك هي علامة أنه مسرور أو منشرح. ولاحظت ذلك فبادلته نفس المشاعر رغم أنني أبقيت مسافة بيني وبينه حتى لا يحل أحد محل صلاح في قلبي أبداً فإبقائي على حبي لصلاح كان نوعاً من التكفير عن الذنب ربما لأنني تسببت في موته أو ربما لأنني لم أشأ أن أدخل في تجربة أخرى تنتهي بمثل نهاية صداقتي مع صلاح. ومع ذلك فقد كان «عباس» من أقرب الناس لي. بعد صلاح طبعاً.
سألني مرة وبدون مقدمات:
– كيف كانت طفولتك يا أستاذ «عبد العزيز»؟ قالوا لينا إنك كنت شقي جداً زمان!!
وأعقب سؤاله بضحكة رنانة نبعت من قلبه ولكنها أيقظت في نفسي حب الحكايات. وعرفت أنه كان يستفزني للكلام. ودون أن أنتبه إلى نفسي انطلقت أحدثه عن طفولتي:
– زمان لما كنت أهرب من المدرسة كنت قاعد أتجول وأتسكع في شوارع العيلفون. مرات أتحاوم في شارع النص بداية من دكان زروق ومروراً ببيت الخياطة قبل لفة حوش المكي ولما أوصل هناك أقيف وأراقب بنات بيت الخياطة وأتذكر كلمات الجاغريو وصوت الفنان أحمد المصطفى.
أستاذ «عباس» لم ينتظر حتى أقول كلمات الأغنية التي أداها الفنان أحمد المصطفى فبادرني يرددها ويتغنى بها:
– ويــن سميري المرسوم في ضميري
ديلَكْ جَنْ تَلاتَة بَعَرِفْ تُومْتِي يَاتَا
بَحَلِفْ بى غَلاتَا
أَهَاجِرْ ليها حَافي أزور بيت الخياطة
ثم نبهني إلى أن الجاغريو ذكر البنات بأسمائهن:
– أنا مستغرب يا «عبد العزيز» من جرأة الجاغريو على ذكر بنات بيت الخياطة بالأسماء الصريحة وبدون كناية. أنا أعرف إن شعراء الحقيبة بيرمزوا للحبيبة بالأرقام أو بالحرف الأول من الاسم لكن الجاغريو سمى بنات بيت الخياطة بأسمائهن بدون لف ودوران.
– ربما لأن الجاغريو مش غريب فهو من العيلفون نفسها وهو معروف بين أهلها يا أستاذ وهو من بيت أصيل ومشهور ولا يعتبر أهل العيلفون ذكره الصريح للأسماء مستفز بل على العكس هو خلد الأسماء دي وكمان خلد أشياء تانية كتيره في البلد بالشعر والغناء.
– لكن يا «عبد العزيز» ده قال الأسماء عديييل كده اسمع دي:
النقرن أجراسن (أجراسهن) أنا قلبي ميراسن (ميراثهن)
حن الزهر باسن (باسهن)
انظر ديك بثينة وكمان شوف ديك محاسن
قالوا يا أستاذ «عبد العزيز» إنو الأسماء دي حقيقية مش رموز.
– بالظبط كده يا أستاذ «عباس». تعرف أنا لما كنت صغير كنت بامشي هناك واقيف قدام بيت الخياطة ده وكان جنب بيتنا وكنت اتمنى انو بثينة أو محاسن تجي طالعة منو عشان أشوف هل هي جميلة فعلاً وفاتنة زي ما غنى ليها الجاغريو؟
– فعلاً؟.
– أيوة وكان في واحدة اسمها محاسن وكانت بارعة الجمال لكن أنا ما كنت متأكد هل هي محاسن اللي غنى ليها الجاغريو والا بس تشابه أسماء. لكن تصدق يا أستاذ الجاغريو ده خلد العيلفون ووثق ليها توثيق ما عادي. ده ذكر البحر والشوارع والأحياء. أذكر لما كنا في المدرسة الوسطى كنا نشيل دفتر العيادة عشان نمشي بيهو الشفخانة في الحي الأمامي ونقعد نتذكر كلماتو ونغنيها ونحن في الطريق ونتمنى تقابلنا البنت الجميلة الغنى ليها الجاغريو وتبتسم لينا زي ما ابتسمت ليهو:
دي البسماتها حالية مهذبة روحها عالية
في الحـي الأمامـــي جـــوار الاسبتـاليـة
– تعرف الأميرالاي ابراهيم النور سوار الدهب؟
– أيوه مالو؟
– حكى لى تاريخ الاسبتالية دي. اللي هي الشفخانة. قال لي الشفخانة دي بداها النور سوار الدهب والناس سموه النور الحكيم لأنو بيعالج الناس. ولما الناس كتروا عليهو الزيارات في بيتو للعلاج قام اشترى قطعة الأرض المبنية عليها الشفخانة الهسة دي. واشتغل فيها من يوم ما بنوها واشتغل معاهو ود مختار اسمه (حسن محمد مختار) وجاب مساعدين طبيين كانوا اتنين من ام قحف وبعدين في الستينيات قام النور الحكيم رجع تاني واشتغل فيها. أنا شفته. راجل أنيق ونظيف يلبس بدلة كاملة وزول متواضع ولطيف وكلامه حلو. عالج الأجيال دي كلها. وبعده جو ناس كتيرين اشتغلوا في الشفخانة دي منهم (الشيخ مصطفى المقابلي) قاعدين نسميه الشيخ الحكيم و(ابراهيم صباحي) و(عثمان العجيمي). والشفخانة دي استمرت معلم كبير من معالم العيلفون لكن الجاغريو أكتر زول خلدها لأنه غنى ليها
– أيوه طبعاً الجاغريو ده شاعر عظيم غنى للعيلفون وللبنات والبحر والعِمة والطاقية والمنديل وغنى للفَرَس بعشوم بتاعة عبد القادر مضوي وللكهرباء لما دخلت العيلفون ولعبد الماجد أبوحسبو. و..
ولاحظت فجأة أن أستاذة «سعدية» وبقية المدرسات جئن يستمعن للحوار من نافذة المكتب ويتابعن باستمتاع فداخلني حياء شديد وتوقفت عن الحوار مع أستاذ «عباس» الذي لاحظ بدوره حين اكتشف أن الحوار أصبح من طرف واحد فاحترم رغبتي في إنهاء الكلام. وانصرف لممارسة هوايته المعروفة في معاكسة ومناكفة أستاذة «سعدية». أستاذ «عباس» كان موسوعة من الأغاني الشعبية وأغاني الحقيبة والقصص والحكايات وكل شيء. حين علمت أنه سيشارك في الرحلة تحمست لها لدرجة أنني تبنيتها أكثر من المدير وشجعت الطالبات على التسجيل. أصبحنا نمضي الساعات في التخطيط. خططنا لها بكل دقة ودخلنا في تفاصيل التفاصيل. بعض الطالبات لجأن للاستدانة لدفع مصاريف الرحلة حتى لا تفوتهن. والمدرسة تحولت إلى خلية نحل ومعنويات الطالبات أصبحت في القمة فكنا ونحن في مكاتبنا نسمع الأغاني في الفصول والرقص فوق الأدراج ونرى تقاذف الطرح البيضاء في الهواء. أستاذة «سعدية» التي لم تسمع نصيحة أستاذ «عباس» في البداية تعبت من انتهار الطالبات وزجرهن فلاذت بمكتبها والطالبات لم ينصعن لتوجيهاتها وبمجرد أن تغادر الفصل تعود الطالبات إلى المرح الصاخب. أستاذ «عباس» نصحها منذ البداية:
– يا أستاذة «سعدية» سيبي الطالبات يفرحن. على الأقل لقن في البلد الكئيبة دي حاجة تفرح. وكلنا فرحانين زيهن. وأنا متأكد انك انت ذاتك فرحانة من جواك بالرحلة دي. اعترفي.
– أنا بس عاوزة أعرف ليه انت متحيز للطالبات المشاغبات ديل يا أستاذ «عباس»؟
– قلبه حنيِّن!!
ويضحك الجميع لمزحة أستاذ «الماحي» ما عدا أستاذة «سعدية» التي ما كانت تعجبها المسخرة، وحين تعبت من تذنيب الطالبات ومعاقبتهن رجعت إلى مكتبها وألقت بمقعدتها الضخمة فوق الكرسي ووضعت ساعديها على المكتب ثم دفنت وجهها بينهما في منظر المتعب الحزين. ويبدأ أستاذ «عباس» ممارسة هوايته معها في خبث ظاهر وابتسامة ماكرة:
– مالك يا أستاذة سعدية؟ سلامتك!!
– تعبت والله يا أستاذ «عباس». خاصة بنات العيلفون ديل ما قاعدات في الواطة ما شايفن ماسكات راس القايدة؟
زادت ابتسامة أستاذ «عباس» خبثاً فنظر ناحيتي وغمز لي بعينه فقد وجد مادة لموضوع جديد فقال يخاطبني:
– صحيح يا أستاذ؟ أنتو ناس العيلفون شايفين نفسكم؟
ولم تنتظر أستاذة «سعدية» ردي فانتفضت رافعة رأسها وقالت تشير بأصبعها السبابة وتحركه للأعلى والأسفل مخاطبة أستاذ «عباس»:
– هوووي يا أستاذ «عباس» مالك عاوز تعمل لينا مشاكل مع الأستاذ المحترم ده؟ والله ناس العيلفون ديل أكتر ناس محترمين بشهادة الكل. أوع ديل أولاد الشيخ ادريس ود الأرباب المحسي الماكضاب (كذاب). راجل العيلفون البيسابق التيلفون.
أستاذة «سعدية» حين تتكلم تستخدم يديها في حركات نسائية مسرحية محببة وأحياناً تتكلم بعينيها وتهز جسدها وردفيها ورغم أنها كانت مكتنزة إلا أن ذلك لم يفسد جمالها ورغم كثرة حركات يديها وردفيها إلا أنها مع ذلك بقيت تتكلم في وقار ولا تخرج من إطار المعلمات المحترمات.
– اسمه التليفون يا أستاذة «سعدية».
– لزوم الوزن والقافية يا أستاذ «عباس» وبعدين انت مالك الليلة مقابلني كدي؟ انت ما عندك حصة دلوقت؟ يالا اتفضل على فصلك. بالمناسبة أنا الوكيلة الليلة انت ما عارف؟
– اسمها شاربني أو شاميني أو كارفني يا أستاذة «سعدية» مش مقابلني. دي المصطلحات الجديدة وانت شكلك زولة قديمة والدليل كلام العجايز ده. انا ماعارف بتبحتيهو من وين؟.
– واااي منك! جابت ليها عُجُزْ كمان يا أستاذ «عباس»؟
ويضحك الجميع لانزعاج أستاذة «سعدية» مدرسة العلوم التي نهضت من مكتبها في صرامة مصطنعة وتوجهت إلى أحد الفصول لتتفادى هذا الحوار المحرج بعد أن نعتها أستاذ «عباس» بالعجوز. أستاذة «سعدية» تخفي خلف صرامتها روحاً طيبة وقلباً حنيناً بعد أن توفي زوجها وترك لها ابنة واحدة مراهقة اضطرت أن تقوم بدور الأب والأم لتربيها وتصرف عليها. الجميع يعلم أنها ترسم على أستاذ «عباس» أو أنه يرسم عليها فالمناكفات المستمرة وتردد أستاذ «عباس» على مكتبها مؤشرات لذلك. وأستاذ «عباس» لا يتورع عن الدوران حولها طول اليوم فتجده في مكتبها أثناء الفسحة وحتى في الخمس دقائق التي بين الحصص. وحينما ترغب في الدلال والصد للأستاذ «عباس» كانت تتقمص دور وكيلة المدرسة التي تتولى الأعمال الإدارية ومراقبة المدرسين مع أن الجميع يعلم أنه لا يوجد شيء في مدرسة الجريف اسمه وكيلة المدرسة فقد تلاشى هذا الدور منذ مدة والمدير هو وحده من يقوم بكل الأعمال الإدارية والرقابية. وما كادت أستاذة «سعدية» تخرج من المكتب حتى انقلبت راجعة وكأنها تريد أن تقول شيئاً ولكن أستاذ «عباس» بادرها بمزاحه المعتاد ومضايقاته:
– هسه أنت المرجعك المكتب تاني شنو؟ مش طلعت من هنا ماشة الفصل يا حضرة الوكيلة؟
– أيوه عاوزة اعرف بتتكلموا من وراي وتقطعوا فيني؟
– أكيييييد قلنا وقلنا. مش يا أستاذ؟
– بالمناسبة يا أستاذ «عباس». ناس العيلفون ديل فيهم الشعرا والفنانين والأدبا ومعظم المعلمين ومفتشين التعليم منهم. أوع تستهين بيهم. التعليم بدا عندهم قبال ما يبدا عندنا في المنطقة دي كلها ونحن قاعدين نرسل أولادنا وبناتنا يتعلموا عندهم في مدارسهم وحتى الموضة بناتهم بيطلعن بيها قبل بنات العاصمة ذاتها. شن قولك؟
– عليكم الله ياجماعة وعليك الله يا أستاذة «سعدية» أنا برضو القلت بنات العيلفون ما قاعدات في الواطة؟
ويضحك الجميع لهذا الحوار الذي لا ينتهي والذي يحمل وراءه حباً بريئاً نظيفاً ومجتمعاً مرحاً حلواً في مدرسة الجريف شرق الثانوية العليا للبنات. وكان الجميع يعلم أن أستاذة «سعدية» تصلح زوجة مناسبة جداً لأستاذ «عباس» الذي توفيت زوجته منذ مدة ولم تترك له أبناء وكأن مجيئه لمدرسة الجريف شرق ليس للتدريس وإنما ليكون بالقرب من أستاذة «سعدية». وحتى أستاذة «سعدية» ما كانت تحس بطعم التدريس في اليوم الذي يتغيب أستاذ «عباس» عن المدرسة فهما ثنائي مدهش.

****

حكاية عباس



abbasرأيته هناك جالساً على كرسيه المكتوب عليه اسمه. وزملاؤه قد تحلقوا حوله مثلما اعتادوا كل يوم. لا يريدون أن تفوتهم الحكايات. عباس ممتع أكثر من الراديو والتلفاز والسينما مجتمعة.. حين يجلس ويحكي تتوقف الحياة والحركة في المستشفى ويتحلق الجميع حوله ويتركون كل شيء وكأنهم يشاهدون نهائيات مباريات كأس العالم لكرة القدم. وعباس يطرب لذلك، وهو لا يبذل أي عناء لتذكر الحكايات. من يستمع إليه يظن أنه يقوم بإعدادها ومراجعتها في غرفته قبل أن يأتي إلى الصالة. والواقع هو أنه لا يتكلفها ولا يفكر فيها فما إن يجلس حتى تنساب من فمه وكأنه يدير مُشَغِّل اسطوانات. لا يتردد ولا يتلجلج ولا يسكت. الممرضات عوقبن في البداية من وراء إهمال عملهن من أجل الاستماع إلى حكايات عباس الممتعة ولكن العقوبة توقفت لما بدأ الأطباء يدمنونه. الناس قالوا إن عباس مخالطه جني يأتيه بالقصص والحكايات. ولكن أي جني وعباس رجل كثير الصلاة ويقرأ القرآن. الممرضات كن يشاهدنه في غرفته وهو دائم الصلاة والتضرع. وهو جميل الصوت حين يتغنى بالقرآن. وصوته حزين وبه بحة محببة. صحيح أنه جاء إلى مستشفى الأمراض النفسية منذ عشرة أعوام وهو لا يزال هنا في نفس الغرفة والجناح. لم يأت معه أي من أقاربه أو أهله فالناس لا يعرفون له أي أقارب أو أهل.. هو يزعم أنه من السمحة وأهل السمحة لا يذكرونه. فقد جاء وحده وأصر أن يقابل دكتور طه ليعاينه ويفحصه فهو لا يثق في أي طبيب ماعدا دكتور طه. دكتور طه ظن في بداية التشخيص أن عباس مصاب بانفصام الشخصية، ثم عدل عن رأيه بعد أن استمع إليه كثيراً وقال إن عقله سليم وإنه صحيح البدن ولا يشكو من أي علة أو مرض. ونصحه بالمغادرة. ولكن عباس انخرط في بكاء بصوت عال مثل الأطفال ولم يسكت أبداً حتى بعد أن تجاهله دكتور طه الساعات الطوال. المستشفى كله توتر للبكاء والممرضات بكين لبكائه. دكتور طه أراد أن يحل المشكلة فسمح له بالبقاء يوماً واحداً على أن يغادر صباح اليوم التالي. ولكن عباس تمكن من التأثير على الجميع وأقنعهم بالبقاء. عباس يملك قدرة عجيبة على إدخال البهجة في قلوب الناس. المستشفى تبدل حاله والمرضى الذين كانوا مصابين بحالات الاكتئاب أصيبوا بنوع من البهجة الصاخبة والمرح العجيب. دكتور طه ما يزال يعتقد أن عباس سليم وبصحة جيدة وأنه محتال وجد أن المستشفى هو أفضل مكان يوفر له المأوى والمأكل والمشرب والأنس ولكن الممرضات لا يتفقن معه في هذا التشخيص. حين جاء إلى المستشفى كان في الثلاثين من عمره وهو الآن في الأربعين. عباس نحيف البدن بصورة مخيفة وكأنه يعاني من السل ولكن نحافته لم تثبط من معنوياته ولم تمنعه الحركة. حين يجلس على الكرسي تظنه شبحاً من الأشباح فمعظم الكرسي يبقى فارغاً ولكنه حين يبدأ الحديث يمتليء ذلك الكرسي حيوية وحركة وتدب فيه الحياة. في رأسه بقايا شعيرات نمت هنا وهناك متناثرة دون ترتيب وكأنها تبحث عن شيء ضائع. وواضح أنها لم تعرف المشط ولا الحلاق منذ فترة طويلة. وحين ينطلق عباس في الحديث ينسى نفسه فيهرشها أحياناً بأظافره التي فقدت الأمل في القص والتشذيب واختبأت تحتها الأوساخ. بعض الممرضين أو الممرضات يتبرعون أحياناً بتمشيطها أو حلقها تماماً. عباس لا يحب أن يلمس أحد شعره ولكنه يستسلم تحت إلحاح الممرضات أو الممرضين. عباس يشبه معظم أهل البلد ولكنه أشجع منهم. كثيرون مصابون بمثل مرض عباس. مشكلات هذه البلد تسبب الأزمات النفسية وقليل منهم من ينتبه إلى أنه مريض. الأمراض النفسية أصبحت شيئاً مثل الزكام. الكل يصاب به. هذا البلد يملك قدرة هائلة على إصابتك بالإحباط والانفصام. الشباب أبناء العشرين أصبحوا يسيرون في الطرقات وظهورهم مقوسة مثل ابن التسعين. العشرون في هذا الزمان أصبحت مثل التسعين. الشعور بالضياع هو شيء تستيقظ من نومك وأنت تحس به. تتردد كثيراً قبل أن تدلي قدميك من السرير تبحث عن حذاء. وغالباً لا تجده لأن أحدهم سبقك فسطا عليه ليلاً. البلد تضيع كل يوم مثل هذا الحذاء. العسكر تعودوا السطو عليها ليلاً وحين يستيقظ الشعب يجد أن أقداماً أخرى لبست الحذاء. وقد لا يكون نفس المقاس ولكنهم لا يبالون.. المهم هو حذاء والسلام.